للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التفاوت بين درجات التصديق]

سبق الكلام بالتفصيل في قضية زيادة الإيمان ونقصانه، ولكننا سنذكر هنا حقيقة هذا التفاوت من عدة أوجه.

فما من شك أن درجات التصديق تختلف قوة وضعفاً تبعاً للتصديق القلبي، فالأنبياء أكمل الناس تصديقاً، ويليهم في ذلك أصحابهم وحواريوهم الذين تلقوا الهدى على أيديهم، ورأوا بأعينهم من المعجزات والآيات ما لا يبقى معه شك في أن هذا الرسول مؤيد من قبل الله تبارك وتعالى، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل.

فالقول بتماثل درجات التصديق التي قامت في نفوس هؤلاء ضرب من المكابرة، فما من شك أن ثمة فرقاً في اليقين والتصديق بين طوائف المؤمنين ابتداء بأعلاهم إيماناً -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- ثم الصحابة، ثم الأمثل فالأمثل.

فهذا موسى عليه السلام أخبره الله عز وجل فقال: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:٨٣ - ٨٥]، فهل حكى الله عن موسى أنه غضب وانفعل الانفعال الذي وصل إلى حد أنه ألقى الألواح؟ كلا، لكن لما عاين ذلك منهم غضب أشد الغضب، ووصل غضبه إلى أنه ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، فهل معنى ذلك: أن موسى عليه السلام كان يشك في خبر الله حينما أخبره أن قومه عبدوا العجل أم أن لهذا تفسيراً آخر؟

الجواب

له تفسير آخر، وهو أن هناك تفاوتاً في درجات التصديق؛ لأنه ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى بعدما حكى صفة أصحاب الكهف وهم نائمون فيه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨]، وهذه إشارة إلى نفس هذه القاعدة: ليس الخبر كالمعاينة.

فوصف الله عز وجل حالهم في القرآن لم يحدث لنا الفرار ولا الرعب الشديد من صورتهم، لكن يخبر الله أنك لو رأيتهم بعينك ((لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)) لماذا؟ لما لك من انفعال بما تعاينه وتراه يكون أشد مما تسمع به ولم تره، فهذا تفاوت في درجات التصديق.

انظر إلى قصة إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]، فهل كان هذا شكاً من إبراهيم عليه السلام؟ كلا.

وإنما كان ذلك منه ليطمئن قلبه، ويتحول علم اليقين إلى عين اليقين، فما من شك أن التصديق في حد ذاته يتفاوت ويختلف من شخص لآخر.

أيضاً: من هو ذلك الشخص الذي يجرؤ على أن يزعم أن هناك تماثلاً ومساواة بين تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عرج به إلى السماوات العلا، ورأى من آيات ربه الكبرى، وبين تصديق رجل من عامة المسلمين؟! إن المؤلف يرى في حد الإسلام أنه لا يتفاوت أهله فيه، ولا يتفاضلون فيه، ولا يزيد ولا ينقص، فهل تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي عاين آيات الله عز وجل في رحلة المعراج، يكون كتصديق أدنى رجل من عوام المسلمين؟! هذا شيء لا يقول به أحد على الإطلاق.

أيضاً: درجات التصديق تختلف قلة وكثرة بحسب العلم بتفصيل الشرائع والجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، خصوصاً في قضايا الإيمان والعقيدة والتوحيد، ولا شك أن الشخص كلما تعلم أكثر فإنه سيصدق بقلبه أكثر، فالذي درس الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وتعلم أركان الإيمان فإنه يكون أكثر إيماناً بكل واحدة من هذه القضايا، فكلما تعلم خبراً جديداً وعلم بحكم جديد في القَدَر مثلاً أو في غير ذلك من أساسيات الإيمان، فإن كمية الأشياء التي يصدق بها وكمية التصديق بقلبه تزيد مع زيادة علمه، ويكون تصديقه أكبر وأقوى وأكثر من تصديق ذلك الذي لم يعلم هذه المسائل.

فدرجات التصديق تختلف في الحقيقة قلة وكثرة بحسب العلم بتفاصيل الشرائع أو الجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، وكلما قل علمه قل تصديقه، فمن أحاط علماً بعشرات الفرائض كان أكثر تصديقاً ممن كان دونه في ذلك.

فالزيادة في هذه الحالة من حيث الكم، ومن حيث العلم بالشرائع زيادة ونقصاناً، وفي الحالة السابقة التي ضربنا لها مثالاً بموسى عليه السلام والألواح كانت من حيث الكيف، فانظر كيف تفاوت التصديق كماً وكيفاً حسب زيادة العلم ونقصانه، وحسب قوة هذا التصديق وقوة اليقين.

وأيضاً: الالتزام بطاعة الله عز وجل، وسائر أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء، تتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معروف مشاهد ومحسوس، ولا ينكره إلا معاند.

لكن إن قال قائل: إن الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي يصح به عقد الإسلام لابد أن يتماثل في الناس جميعاً، فلا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص؟ يكون الجواب: أن هذا القدر لا يمكن ضبطه، ولا يتصور وجوده إلا في مجال الظاهر، بحيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، وبراءتهم من كل دين يخالفه، وأن ذلك تعبر عنه كلمة الشهادتين، فهذا كله يتمثل في الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، فهذا الإعلان الظاهري هو الذي يتماثل عند الناس جميعاً في هذه الناحية، ففي الظاهر الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً، بل يتفاوت الشخص نفسه من حالة إلى أخرى، ويتفاوت تصديقه، ويزيد إيمانه وينقص، ويقوى يقينه ويضعف من حين إلى آخر وهكذا هذا من حيث حقيقة ما في القلب، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثل عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه، والزيادة والنقصان تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان، إذاً: ما هو هذا الحد الأدنى؟ هو النطق بكلمتي الشهادة.

فهذه الماهية المجردة لا وجود لها في الأذهان، ولا حقيقة لها في الخارج، فلا نستطيع أن نتصور ماهية مجردة للإيمان متماثلة في سائر المؤمنين بحيث لا تتفاوت ولا تزيد ولا تنقص، بل لكل إنسان إيمان يخصه، وهذا الإيمان قابل للزيادة والنقصان في كل وقت بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع كل منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد موجود لدى كافة المؤمنين في جميع الأوقات.

فمثلاً إذا سُئل رجل: كم مال زيد؟ فأجاب قائلاً: يزيد وينقص.

فلا يستنتج السائل من هذا الجواب أن لمال زيد مقداراً محدوداً يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى، مع ثبات هذا المقدار في الوجود، بل الزيادة والنقصان إنما تكون بالنسبة إلى المال الموجود وقت وقوعها.

<<  <  ج: ص:  >  >>