[فتح باب التوبة للتائبين]
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، -متعبد- فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة؛ ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، هذه من الأساليب التربوية الناجحة؛ إذ مما يعين الإنسان على الاستقامة أن يبعد عن أهل السوء وصحبتهم، والأماكن التي تذكره بمعاصيه وتعينه على الشر.
لذلك ذكر بعض العلماء في حكمة تشريع التغريب في حد الزاني غير المحصن: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) قوله: (وتغريب عام) وذلك لأنه ربما يكون في هذه البلد التي يعيش فيها صحبة سوء هم الذين يحرضونه على المعاصي ويزينونه له، أو غير ذلك من العوامل التي تعيق التوبة في حقه، فإذا نفي سنة من بلده استطاع أن يستأنف حياة جديدة ويتوب ويستقيم.
أسلوب تغيير البيئة له أثر عظيم جداً في التوبة، وتجد إخواننا في جماعة التبليغ يستعملون هذا الأسلوب لتغيير صفات من يأوون إليهم، يهتم جداً بنقله من المكان الذي هو فيه إلى مجتمع آخر يغلب عليه الذكر والخير والعبادة، بحيث أنه فعلاً يأتي بثمار طيبة، لولا ما عليهم من بعض المؤاخذات.
يقول: (فانطلق حتى إذا أتى نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)، قال قتادة والحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره.
يعني: لم يستسلم لكن أراد أن يقرب نفسه بقدر الاستطاعة من أهل الخير.
فوا حسرتاه على الذين يتركون بلاد المسلمين بأرجلهم ويذهبون ليعيشوا في عمق بلاد الكفار! الذين يضعفون منهم الإيمان والدين.
فهذا الرجل في اللحظات الأخيرة من شدة حرصه على التوبة وعلى الاقتراب من أرض الخير والعبادة لما عجزت رجلاه ولم تحملاه زحف بصدره حتى يقترب بقدر استطاعته من أرض العبادة وأرض الخير.
وفي بعض الروايات: (فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها شبراً فجعل من أهلها)، وفي بعض الروايات: (أن الله عز وجل أمر الأرض بأن تمتد حتى إذا قاسوا المسافة وجدوه أقرب إلى القرية الصالحة).
أيضاً روى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا هل لما عملنا كفارة؟ فنزل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨]، ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣]).
وقال محمد بن إسحاق: قال نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديثه: (وكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم! قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم في أنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:٥٣ - ٥٥]).
وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:١٧] قوله: (من قريب)، يعني: قبل الموت! قال عمر رضي الله عنه: (فكتبتها بيدي في صحيفة) وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه، قال: فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى -مكان- أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم أفهمنيها! قال: فألقى الله عز وجل في قلبي: أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.