[بيان المسلك التفصيلي في حد الإسلام]
سبق أن الباحث في تحريره لقضية حد الإسلام -على حسب تعبيره- سلك مسلكين: مسلك الإجمال، ومسلك التفصيل، والكلام الماضي كان فيما يتعلق بمسلك الإجمال، وذكرنا بالنسبة لمسلك الإجمال موقف أهل السنة وما هو معروف في عقيدتهم، وأن الخصائص التي ذكرها لحد الإسلام كان الأولى بمعظمها كلمتي التوحيد، وإنما قلنا: إن معظم هذه الخصائص وليس كلها؛ لأن هناك ملاحظة في دعواه: أن هذا الحد لا يزيد ولا ينقص، بل يتماثل فيه الناس أجمعون، وبينا أن هذا غير صحيح.
السؤال الآن: هل يمكن للكاتب أن يسلك نفس المسلك الأول هنا؟ وهل يمكن أن يكون قد قصد فعلاً إلى ذلك؟ لا بد أن نبين المقصود بذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
المقصود: هل يمكن أن يذهب الباحث إلى أن أصل الدين هو التصديق والالتزام بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة التفصيل المطلق، أي: الإقرار التفصيلي بكل ما ثبت بالوحي المعصوم خبراً خبراً وتكليفاً تكليفاً، ثم يكون هذا الإقرار والالتزام هو أصل الدين الذي يثبت به جميع ما أثبته الكاتب لأصل الدين من الخصائص، فلا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، ولا يعذر فيه أحد بجهل، ويكون سابقاً على غيره من التكاليف، فلا يصح عمل ولا يقبل إلا به، ولا يقبل التبعض ولا الزيادة ولا النقص؟ الظاهر أن الكاتب لا يريد ولا يقصد هذا المعنى؛ لأنه صرح في بعض المواضع فقال: إن الجهل بفريضة الصلاة إن كان له وجه كحال من لم تبلغه فريضتها في دار الحرب عذر يسقط التكليف بها، ويستحق به صاحبه عفو الله عنه، وهذا داخل في أحد شقي التعريف، الذي هو الانقياد لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب.
وصرح في موضع آخر فقال: إن الجهل بحكم الله في مسألة من المسائل يصلح عذراً لمن ارتضى في هذه المسألة حكماً غير حكم الله، ظناً منه أن هذا هو حكم الله، فهذا مثل المجتهد المخطئ، يجتهد ويتحرى أن يصل إلى حكم إلهي، يبذل غاية وسعه وجهده ليصل إلى حكم الله، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له.
أيضاً: صرح في موضع ثالث بأن جهل الجارية التي زنت بدرهمين يصلح عذراً لها يسقط الحد ويرفع المؤاخذة، هذه الجارية التي أتت بالفاحشة وأتي بها إلى أحد الخلفاء الراشدين ولعله علي؛ فسألوها فاعترفت وتكلمت بنوع من العفوية والبساطة، فقال الحاضرون: يا أمير المؤمنين! كأنها لا تعلمه، أي: أنه لاحظ طريقتها في الكلام والاعتراف كأنها لا تعرف أن هذا الفعل يستوجب حداً، فاستسهلت به وصرحت وكان ظاهر حالها أنها لا تعلم، فلما تبين ذلك منها عذرت بذلك؛ لأنها تجهل أن هذا يستوجب الحد، فهنا الكاتب أيد هذا الحكم، وأن الجهل بهذا الحد يسقط الحد ويرفع المؤاخذة.
فمنهج الكاتب في هذا الأمر قائم على التفريق بين أصل الدين وفروعه، وعنده اعتبار: أن الفروع تقبل التبعيض، ولا يشترط فيها التلازم.
نزيد الأمر وضوحاً فنقول: إن اعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للدين يتوقف على استيفائه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام، وتثبت له جميع ما أثبته أهل العلم من أصل الدين من الخصائص؛ أمر لا يمكن أن يستقيم لأي إنسان عاقل، فلم يقل أحد من السابقين ولا اللاحقين -لا من أهل السنة ولا من أهل البدع- بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار وجميع التكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، ثم إعلان الإقرار بها والانقياد لها خبراً خبراً وأمراً أمراً، وهذا أمر يكفي تصوره للحكم بفساده.
أيضاً: لم يقل أحد من أهل القبلة إن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية الذي يعلم بضرورة الحال أنه جاهل به -وما دام الإنسان جاهلاً بشيء فهو لا يعتقده- فلم يقل أحد إن هذا الجهل ببعض أصول الدين يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، بل عدم الدخول فيها من البداية، ومجرد تصور هذه النتيجة كاف للقطع بفساد ما أدى إليها.
أي: لو أن رجلاً شهد شهادة التوحيد وجهل أمراً من الأمور الشرعية، وبالتالي ما دام جامداً فإنه لا يعتقد ما يجهله، فلم يقل أحد: إن هذا الرجل مع نطقه بالشهادتين لم يدخل أصلاً في الإسلام وإنه باق على كفره الأصلي! هذا أيضاً فساده معلوم.
أيضاً: لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أُرجئ الحكم بإسلامه حتى تُعرض عليه كافة شرائع الدين وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده، ليؤخذ إقراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة ولا يزالون من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار العام والالتزام العام، ثم يعلمونهم بعد ذلك شرائع الدين على مكث.
المقصود: أنه لا بد أن نفهم المسلك الإجمالي للكاتب، وأنه لا يقصد بكلمة: (جملة وعلى الغيب) الإقرار بكل الأخبار والانقياد لكل التكاليف، بل يقصد بذلك الإقرار الإجمالي وليس التفصيلي.
يعني: هنا لا نقول: إن الكاتب قال هذا الكلام، لكن نقول: قوله: (إن حد الإسلام هو الإقرار بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب) يقصد به الإجمال حقيقة، وما كان له أن يقصد سوى ذلك، لا سيما وقد قرر لأصل الدين ما قرر من الخصائص الخطيرة التي لابد معها أنه كان يقصد حقيقة الإجمال، وليس تفاصيله.
فأصل الدين -كما قرر الباحث- هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هو القبول لذلك على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف؛ لأن هذا الأخير مما لا يتوقف على استيفائه من البداية ثبوت عقد الإسلام، ولا يعتبر شرطاً في صحة أو قبول الأعمال.
ولا يقال: إنه لا عذر فيه بالجهل؛ لأن الإقرار التفصيلي يتضمن فيما يتضمن الفروع، وهو يعذر في الفروع بالجهل كالأمثلة التي ذكرناها، فيلزم من ذلك أنه لا يقال: إن هذا الأمر لا يقبل الزيادة ولا النقصان؛ لأن تفاوت الناس في معرفة هذه التفاصيل والإقرار بها معروف بالحس والبداهة، وشتان بين العامة في ذلك وبين العلماء.
على أي الأحوال: الأمر يحتاج لمزيد من البسط، وكلما مضى وقت أكثر وسبرنا أغوار البحث ستزداد القضية وضوحاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.