والدكتور جعفر في الحقيقة بدأ أولاً يلخص كتاب المعالم في عبارات مركزة، ولأننا نناقش منهج الكتاب فمن الأفضل أيضاً أن نمر على هذا الاختصار والتلخيص.
يقول: يستهل الأستاذ سيد قطب كتابه بتقرير أن الحضارة الغربية بشقيها الديمقراطي والرأسمالي والجماعي الشوعي لم تعد صالحة لقيادة البشرية بسبب إفلاسها في عالم القيم، وأنه لابد من قيادة جديدة تملك إبقاء الحضارة المادية وتنميتها، وتزود البشرية بقيم جديدة جدة كاملة، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي، وأن الإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج، ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي أهدافه إلا أن يتمثل في مجتمع، بيد أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ قرون كثيرة، فلابد إذاً من بعث تلك الأمة كي تتسلم القيادة.
ويتساءل الكاتب: كيف تبدأ عملية هذا البعث الإسلامي؟ وهذا يقوده إلى قضية المنهج التي نحن بصددها، ولعلنا نستطيع أن نرتب خطوات هذا المنهج من شتى فصول الكتاب في الآتي: أول خطوة في طريق بعث الأمة الإسلامية هي: وجود طليعة تعزم على تسلم القيادة، الأفراد الممثلون لهذه الطليعة الذين انسلخوا عن المجتمع الجاهلي، والذين خلصت ضمائرهم من العبودية لغير الله يكونون جماعة مسلمة هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم، لابد لهذه الطليعة من معالم في الطريق تعرف منها طبيعة عملها، وحقيقة وظيفتها، وطلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة، كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً، أين تلتقي مع الناس؟ وأين تختبئ؟ ما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام، وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف أين تتلقى في هذا كله؟ وكيف تتلقاه؟ هذه المعالم لابد أن تستقى من المصدر الأول لهذه العقيدة: القرآن، و (معالم في الطريق) كتب للوفاء بهذا الغرض، وهو موجه لتلك الطليعة المرجوة المرتقبة، ولكي تؤدي هذه الجماعة رسالتها وتتسلم قيادة البشرية عليها أن تكون كجيل الصحابة، ذلك الجيل القرآني الفريد؛ لأن القرآن والسنة اللذين خرجا ذلك الجيل ما زالا بين أيدينا، وغيبة شخصه صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار جيل الصحابة، ولكي تكون هذه الطليعة كذلك الجيل عليها أن تسلك المنهج الذي تخرج عليه، وهو يتمثل في أن تستقي من القرآن وحده، ولا تخلطه بمنابع أخرى، وأن تتلقى منه لتنفذ لا لتستمع أو تتثقف، وأن تعتزل الجاهلية المحيطة بها، وأول ما تلقاه ذلك الجيل القرآني وأهم ما تلقاه من القرآن الكريم هو العقيدة، وبالعقيدة ينبغي أن تبدأ هذه الطليعة الجديدة.
العقيدة هي: لا إله إلا الله، وهي تعني رد الحاكمية لله في الأمر كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم.
إن أول ما ينبغي أن ندعو الناس إليه هو العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، فقد ظل القرآن المكي ثلاثة عشر عاماً يتحدث في قضية العقيدة ولا يتجاوزها إلى شيء مما يقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة؛ لأن العقيدة هي الأساس التي تقوم عليه وتنبثق منه كل تنظيمات الإسلام وتشريعاته، فإذا استقرت العقيدة في النفس استسلمت للنظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، ولأن هذا الدين منهج عملي حركي جاد، ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، والقرآن لم يعرض قضية العقيدة في تلك الفترة في سورة نظرية أو لاهوت أو جدل كلامي، وإنما كان يخاطب فطرة الإنسان، ولذلك لم يعرض القضية في تلك الصور، وإنما عرضها في صورة تجمع عضوي حيوي، وتكوين تنظيمي مباشر من الحياة ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو هذه الجماعة ممثلاً لنمو البناء العقدي، كل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر، كذلك هذا هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين في أي وقت إلا به.