إن أصل أصول الدين هو أن الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلب وباللسان، وعمل بالقلب وبالأركان بما فيها اللسان، فإذا حقق الإنسان هذه الأمور الأربعة تحقيقاً بالغاً، وعرف ما يراد بها معرفة تامة، وفهم فهماً واضحاً، ثم أمعن النظر في أضدادها ونواقضها، تبين له أن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق، وكل واحد منها يخرج من الملة بالكلية، وإن اجتمعت في شخص فظلمات بعضها فوق بعض والعياذ بالله من ذلك؛ لأنه إما أن تنتفي هذه الأمور كلها فلا يكون عنده قول القلب ولا عمله، ولا قول اللسان ولا عمل الجوارح، أو ينتفي بعضها، فإن انتفت كلها فقد اجتمعت أنواع الكفر غير النفاق، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:٦ - ٧]، فإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق، فهذا كفر الجهل والتكذيب، قال الله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}[يونس:٣٩]، فلما انتفى تصديق القلب مع الجهل بالحق فهذا هو كفر الجهل والتكذيب، وقال تبارك وتعالى:{أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}[النمل:٨٤]، كذب وجهل بالحق، فهو جمع بين التكذيب والجهل:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:٨٣ - ٨٤] فإذا كتم الحق مع العلم به وبصدقه فهذا كفر الجحود والكتمان، يعني: قلبه يعلم بالحق لكنه يكتمه ويجحده، كما قال عز وجل في فرعون وقومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:١٤]، وقال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ}[البقرة:٨٩]-اليهود- {مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة:٨٩]، هم يعرفون أن الرسول حق، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً؛ لكنهم جحدوا واستكبروا، وقال عز وجل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[البقرة:١٤٦ - ١٤٧].
أما إذا انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح، فهو يصلي ويصوم ويزكي ويشهد الشهادتين؛ لكن انتفى عمل القلب، فلا نية ولا إخلاص ولا محبة ولا إذعان بالقلب، فهذا هو كفر النفاق؛ سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى، وسواء انتفى بتكذيب أو شك، يقول عز وجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}[البقرة:٨ - ١٠] إلى قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:٢٠].
وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان، كمن لا يوجد له عمل بالقلبس ولا عمل بالجوارح؛ لكن عنده معرفة بالقلب واعتراف باللسان؛ فهذا كفر العناد والاستكبار، ككفر إبليس؛ لأن قلبه لم ينقد لأمر الله تبارك وتعالى، وانتفى عمل الجوارح؛ لأنه لم يمتثل الأمر بالسجود، مع معرفته بقلبه أن هذا الأمر بالسجود صادر من الله تبارك وتعالى، فهو يصدق أن هذا أمر الله.
وكذلك كفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه، أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود هو من هذا الباب، وكذا كفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً.