[طريق معرفة الله وأسمائه وصفاته]
هنا سؤال نحتاج لتجليته، وهو: هل معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة ما يجب إثباته لله تبارك وتعالى من صفات، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، هل ذلك يكون عن طريق العقل أم عن طريق الشرع؟! هذا سؤال اختلف فيه الناس، وهو موضع خلاف أساسي بين المعتزلة وأهل السنة.
فالمعتزلة يقولون: إن معرفة الله تجب عقلاً، والطريق إليها هو العقل.
وأهل السنة يقولون: إن وجوب المعرفة وطريقها هو الشرع.
ثم تتعدد وتنقسم الفرق في هذا الباب أيضاً بعد ذلك، ولذلك نحذر من خطر الكلمة التي تشيع على ألسنة الناس عندما يقولون: عرفوا الله بالعقل، كلا؛ فالله لا يعرف بالعقل، إنما يعرف بالشرع عن طريق الوحي.
فما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وما يجب له، وما يستحيل عليه لا سبيل للبشر إلى إدراكه ما لم يعرف ذلك عن طريق الوحي المعصوم، فالإنسان أسير للمحدثات التي يراها ويتصورها ويتخيلها، والله تبارك وتعالى فوق ذلك كله، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].
وأي عقل سوف نتحاكم إليه؟! إن العقول تتفاوت، وبعض العقول تكون كاملة وبعضها تكون قاصرة، فما يتصوره شخص قد يعجز عن تصوره شخص آخر، فلا مخرج من التناقض حينما نرد الناس إلى العقل؛ لأننا لا نردهم إلى مصدر يحسم الخلاف، والله تبارك وتعالى حينما أخبر عن تنازع الناس قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:٥٩] فعند التنازع نتحاكم إلى الشرع؛ لأننا إذا تنازعنا فتحاكمنا إلى العقول فلن يسد باب التنازع، بل ربما تزداد المنازعات.
قال الإمام اللالكائي في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة): (سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل) فقوله: (بالسمع) يعني: بالنقل والوحي.
قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩]، وقال تبارك وتعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:١٠٦]، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥].
يقول الحافظ اللالكائي: فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد.
وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:٥٠].
ودائماً يأتي في القرآن الهوى في مقابلة الوحي، كقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦].
وكذلك استدل إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بأفعال الله المحكمة المتقنة على وحدانيته بطلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب واختفائها، ثم قال بعد ذلك: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:٧٧] فعلم أن الهداية وقعت بالسمع، وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:١٥٨]، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].
وهنا لفتة، وهي أن بعض الناس يقولون: كيف نخاطب الناس بالقرآن وهم لا يؤمنون بالقرآن؟! وأقول: بل هذا هو المسلك الصحيح، فآيات الله أنزلت كي ينذر بها الذين أرسل إليهم هذا الرسول، وأنزل هذا الكتاب من أجل هدايتهم.
فكما يستعمل الإنسان الآيات العقلية وغير ذلك من الآيات المبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا فإنه كذلك يستعمل آيات الله عز وجل التنزيلية يتلوها على الكفار ويحذرهم بها، ولا يفت في عضده أن يقول بعض الناس: كيف تخاطب بالقرآن أناساً لم يؤمنوا بالقرآن؟! نقول: هكذا كان يفعل الرسول وهكذا كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم في تلاوة آيات الله عز وجل على المشركين.
وعوداً على موضوع حديثنا عن ثبوت التوحيد ومعرفة الله وأحكامه بالشرع لا بالفعل نستشهد هنا بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].
وقال تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، يقول القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}: في هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافاً للمعتزلة القائلة بأن العقل يقبح ويحكم ويبيح ويحرم.
ويقول ابن القيم رحمه الله: إن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وهذا كثير في القرآن، حيث يخبر الله أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة.
وقال الشنقيطي رحمه الله: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة وما ركز من الفطرة، بل إن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، فمن ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإنه قال فيها: ((حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، ولم يقل: نخلق عقولاً وننصب أدلة ونركز فطرة.
فالفطرة تهدي للتوحيد، والعقول تهدي للتوحيد، والآيات في السماوات وفي أنفسنا أمور تهدي للتوحيد، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى قضى أنه لن يعذب أحداً حتى تبلغه حجة الرسل بالسمع وبالوحي.