للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى الولاية لغة وشرعاً يناقض ما ذهب إليه كاتب (حد الإسلام) في الولاء

إن أئمة اللغة لم يقصر أحد منهم معنى الولاية على النصرة كما ذهب الكاتب، بل ذكروا جميعاً أن أصل الولاية من الوَلْية، والوَلْي هو القرب، وضد الولاية العداوة، وتطلق الولاية أيضاً على المناصرة، وتطلق على الحب والتقريب.

فهناك إذاًَ: ولاية الحب والمودة، وهناك ولاية التحالف والنصرة، يقول في الصحاح: والولي ضد العدو، والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والتقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، فخلاصة كلام اللغويين في هذا أن الموالاة ضد المعاداة، والمعاداة درجات تبدأ من تنافر القلوب، وتمتد إلى أن تصل إلى المقاتلة وتقابل السيوف، أو المظاهرة على العدو والدل على عورته.

هذا من حيث اللغة.

إذاً: الولاية تشمل هذه المعاني ولا تقتصر فقط على ما ذكره الكاتب.

أيضاً هناك من القرآن الكريم ما يدل على هذا؛ فإن القرآن فرق بين الولاء والنصرة في تسعة عشر موضعاً، منها: قوله عز وجل: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:٤٥]، وقوله الله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:١٢٣]، {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:٢٢]، {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:٨].

فهذا التفريق بين الولي والنصير من حيث القسمة العقلية لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه تفريق حقيقي، يعني: أن العطف هنا يقتضي المغايرة، وأن الولاية غير المناصرة، أو أن يكون هذا من باب عطف الخاص على العام، مثل قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:٩٨]، مع أن جبريل وميكال من ملائكة الله ولكنه خصهما من دون ملائكته، فتكون النصرة فرداًَ من أفراد الولاية أو أحد معانيها، {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:١٠٧].

فعلى كلا الوجهين يبطل ما ذهب إليه الكاتب من قصر حقيقة الولاية على النصرة والدل على العورات.

وجه ذلك أن الولاية هي ضد العداوة، والعداوة درجات تبدأ ببغض القلوب، وتمتد إلى أن تصل إلى مقاتلة العدو، أو المظاهرة عليه والدل على عوراته، فإذا تأملنا المقابلة بين الولاية والعداوة في مثل قوله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، أيضاً يقول الله عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:٥٠]، فالنصرة فرد من أفراد الموالاة وصورة من صورها وليست كل الموالاة هي النصرة.

أيضاًَ من الأشياء التي تلفت النظر أن الكاتب أخرج ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عن أن يكون صورة من صور الموالاة، ولم تبلغ حد الكفر؛ لأنه وضع أصل موالاة الكافرين لها معنى واحد هو المناصرة والدل على العورات، وأن هذه المناصرة بهذه الصورة ليس لها تكييف إلا أنه كفر أكبر يخرج من الملة، مع أن الله عز وجل قال في شأن حاطب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا))، خصه بالإيمان، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:١].

فنهت الآية عن اتخاذ أعداء الله أولياء، وذكرت صورة من ذلك وهي الإلقاء إليهم بالمودة، وهذا هو مورد الآية أصلاً، فكيف يقال بعد ذلك: إن ما وقع من حاطب رضي الله عنه يخرج عن نطاق الموالاة بالكلية، فالمشكلة هي أنه تبنى أصلاً مسبقاً، ثم حاول أن يفسر الآية على الأصل الذي تبناه، أو حاول تأويلها في ضوء هذا الأصل، ونحن مأمورون بأن نتحاكم إلى آيات الكتاب لا أن نتحكم فيه، فهذا والله أعلم نوع من التحكم، فوضع أصلاً من عنده غير موافق للشرع ولا للغة، ثم لما وضع هذا الأصل واستقر عنده أراد أن يقصر معنى الآية على هذا الأصل الذي ذكره.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تفسيراً للموالاة المذكورة في قوله: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) فقوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ))، هذا هو تفسير الموالاة، وقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:٢٨]، فالآية تجيز للمسلمين في حال الخوف المداراة وإظهار الموالاة باللسان لأعداء الله بقدر ما يكف به شرهم وتندفع به فتنتهم، مع عقد القلب على البراء والبغض، يقول الطبري: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً))، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل.

وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يكف بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة.

ويقول الشوكاني: وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، لكنها تكون ظاهراً لا باطناً.

خلاصة الكلام أن مسمى الموالاة لأعداء الله لا يختص فقط بالنصرة وحدها، بل يشمل سائر صور المودة الأخرى، هذا فيما يتعلق بمعنى الموالاة وقصر الكاتب إياه على المناصرة، وبيان أنها أعم من ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>