للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قاعدة أهل السنة في رحمة أهل البدع والمعاصي والصلاة معهم]

هذه رسالة من الرسائل المهمة جداً، وإن كان أغلب شرح الطحاوية مقتبس من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وهذه الرسالة من الرسائل المباركة التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى نصيحة للمسلمين، وسنذكرها -إن شاء الله- لأهميتها، وتسمى (قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال الله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:١٠٢ - ١٠٦].

يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة.

يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:١٠٦ - ١٠٧].

وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (أنهم كلاب أهل النار.

وقرأ هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦]).

قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه.

وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم -يعني: لا يرفع ولا يتقبل منهم- يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)، وفي رواية: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).

وفي بعض الأحاديث الأخرى: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه).

يقول شيخ الإسلام: والخوارج هم أول من كفر المسلمين بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق ويرحمون الخلق.

وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار.

وذلك لأن بعض هؤلاء الشيعة -وهم أشد الشيعة غلواً- زعمواً أن علياً رضي الله عنه هو الله، وعبدوه وألهوه، والعياذ بالله، فدعا بنار وأحرقهم، فلما أدخلهم النار قالوا: ألم نقل لك: إنك إله؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا الله.

والعياذ بالله، فقال علي رضي الله عنه قال: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا يعني: قلت له: أوقد هذه النار.

يقول: وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه.

وهو عبد الله بن سبأ اليهودي ابن السوداء، هكذا كان لقبه، وهو الذي أشعل نيران الفتنة، وهو الذي أسس للشيعة دينهم.

وأمر علي رضي الله عنه بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وهم فرقة أخرى من فرق الشيعة، وهي فرقة المفضلة الذين كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه -فيما قد تواتر عنه- يقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، والله لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.

أي: حد الكذاب.

يقول شيخ الإسلام: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم تظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره.

بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يصلون خلف المسلم المستور.

ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، كما أشرنا من قبل إلى هذا الخلاف، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أن الإنسان لو صلى خلف مبتدع أو فاسق مع إمكان أن يصلي خلف عدل فصلاته صحيحة، وأكثر العلماء يصححون هذه الصلاة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يتمكن من الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر، كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فإنه يصلي خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.

وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحد: إنه لا تصح إلا خلق من عرف حاله.

ومعنى هذا أنه استحب بعضهم أن يصلي خلف من يعرف حاله نظراً لشيوع البدع والانحرافات والضلالات، لكن ليس النقاش في صحة الصلاة.

وقد حصل أن قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة؛ لأن الدولة الفاطمية الخبيثة أفسدت الحياة في مصر، وأرست كل البدع التي تختص بها مصر دون سائر الشعوب الإسلامية، كالمقابر التي وضعت في المساجد، والمولد، ونحو ذلك من الضلالات، بل تركت -أيضاً- آثاراً من التعصب لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم والغلو فيهم، وتركت بصماتها إلى عهد قريب، وكان العلماء يعدون مصر في ذلك الوقت دار حرب، حتى ألف الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ذلك الوقت كتاباً سماه (النصر على مصر)، وأكثر الناس حينما يُذكَر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى تلتفت أذهانهم إلى سيرة هذا الملك الصالح الذي حرر بيت المقدس من أيدي الصليبيين، ونحن -معشر المصريين- ينبغي أن نشكر لـ صلاح الدين رحمه الله تعالى جميله، فقد طهر مصر من الدولة الفاطمية، وهو الذي أحدث هذا التغيير في الدولة الفاطمية في مصر، وقضى عليها، وأعاد مكانها مذهب من هو أقرب إلى مذهب أهل السنة بلا شك.

يقول شيخ الإسلام: ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه؛ لأن عامة الناس كان قد حصل فيهم هذا التغيير في العقيدة، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.

يقول شيخ الإسلام: فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد كان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان على ذلك، كما في صحيح مسلم.

وكذلك عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف المختار ابن أبي عبيد معروف أن المختار بن أبي عبيد ادعى النبوة، والأخبار تثبت أنه كان يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل، وقد قيل لـ ابن عمر رضي الله عنهما: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه! فقال: صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١].

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَر

<<  <  ج: ص:  >  >>