اعتبار الإكراه مانعاً من الحكم بالكفر في جانب الولاية
أما بالنسبة للولاية فإنها أكثر ما يرد عليها هذا العارض، فأكثر أركان تأتي في وصف الكافر هي أركان حد الإسلام الثلاثة: النسك، والحكم، والولاية.
وقلنا: يندر أن يحصل إكراه في باب النسك، فإن وقع فهناك عذر بالإكراه فيه، وفي باب الحكم أيضاً أوضحنا ذلك، وإن كان احتماله أكثر من النسك.
أما بالنسبة للولاية فهي أغلب ما يقع فيه العذر بالإكراه، وأكثر ما يرد عليه عارض الإكراه؛ لأن الولاية فيها تعلق دائم بالتعامل مع الغير، فيجب أن يفرق في هذا المقام بين عمل القلب الذي يجب أن يكون تاماً موافقاً لمرضاة الله عز وجل، وبين ما يجب من أعمال الجوارح الذي يقيمه الإنسان حسب الإمكان، مثلاً: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وفي بعض الأحاديث: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل).
المقصود: أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين وليس فرض كفاية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبقلبه)، ولم يقل: فإن لم يستطع؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، واعتقاد القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يطلع عليه إلا الله، فبالتالي لا يمكن أن يكون الإنسان مكرهاً في هذا، بل نفى الإيمان عمن لا ينكر هذا المنكر بقلبه، فإنكار المنكر باليد أو باللسان يتفاوت حسب القواعد المعروفة في الأمر والنهي، أما إنكار المنكر بالقلب، فواجب على كل مسلم أن ينكره بقلبه، وإلا فسوف ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل).
فكذلك هنا: الإنسان لا يعذر بالإكراه في انحراف قلبه عن الاعتقاد الحقيقي؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، فالقلب لا بد أن يكون موافقاً موافقة تامة لما يرضي الله، أما الجوارح فإن كان وقع عليه إكراه فهو يعذر بالإكراه في منع عمل الجوارح، ويقيم أمور دينه حسب الإمكان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٢٨]، والمعنى: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم مع انعقاد قلوبكم على الإيمان.
قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، كما حكى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: إنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، هل معنى ذلك: أن المسلم ينافق الناس؟! لا، لكن المقصود في حال الإكراه.
فإذا وجدت شبهة الإكراه العام كما تكون مثلاً في بعض البلاد التي تكون الدولة والغلبة والقهر فيها لغير المسلمين، فحينما نحكم على آحاد الناس في هذه الحالة يجب أن نضع في اعتبارنا هذا العارض عند الحكم على آحاد الناس بما يظهر من صور قد تقدح في قضية الموالاة، فوجود شبهة الإكراه تقدح في دلالة ما يظهر من الموالاة على ما يترتب عليها من الكفر أو الفسق وليس العكس، يعني: إنسان مسلم أتى بشيء يكفره أو يفسقه بعذر الإكراه، مثل أن يقرب لوثن، أو يتكلم بكلام يكف به عن نفسه شر بعض الطواغيت تحت عذر الإكراه مثلاً، فهذا الفعل في حد ذاته إذا نظرنا إليه مجرداً قادح في الإيمان، لكن إذا كان الفعل بمجرده يدل على الكفر، ووجدت شبهة الإكراه فإنها تقدح في الدلالة على كفر فاعلها، وليس العكس، يعني: لا يقال: إن وجود ظاهر الموالاة يقدح في دلالة التلفظ بالشهادتين على الحكم بالإسلام، فنشهد لهذا الإنسان بأنه كافر أو على الأقل نتوقف فيه؛ لأن هذا قلب للقضية، فالأصل أنه مسلم، فأنت لا تنظر للفعل بمجرده، بل انظر للفعل إذا كان معه قرينة الإكراه، ففي هذه الحالة شبهة الإكراه تقدح في الأخذ بدلالة هذا الظاهر، ولا يقال العكس، لا يقال: إن هذا الظاهر يقدح في أصل التوحيد، وأصل التزام هذا الرجل بالشهادتين.
ووجه ذلك: أنه التزم الالتزام المجمل بالإسلام، فشهد الشهادتين، والتزم التزاماً مجملاً بالإسلام؛ فهذا يدل على صحة الانتساب إلى الإسلام في الظاهر، وهذه دلالة تعطينا يقيناً بأن نطق هذا بالشهادتين، والتزامه المجمل بالإسلام، يدل دلالة يقينية على أنه مسلم، ولا يجوز القدح في هذه الدلالة بشبهة محتملة، ولا يجوز العدول عن العمل بمقتضاها إلا بحجة قاطعة، فهذا اليقين لا يبطله إلا يقين مثله، أو أقوى منه.
فهنا توجد شبهة للإكراه، ونحن على يقين أنه مسلم، فلا يتزحزح هذا اليقين إلا بيقين مثله أو أقوى منه، فإذا وجدت شبهة الإكراه فإنها ليست يقيناً كافياً حتى نبطل ونقدح في التزامه بالإسلام.