للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجه اقتران صفة إفراد الله بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى]

لقد بين الله عز وجل في كتابه العزيز في كثير من الآيات صفات من يستحق أن يكون له الحكم وحده، وذلك ليلفت أنظارنا إلى أن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله تبارك وتعالى إذا كانوا يملكون مثل هذه الصفات فيكون لهم الحق في أن يشرعوا ويحلوا ويحرموا، بل ويعبدوا من دون الله، سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! هذا إن كانت لهم هذه الصفات التي سلكوها، أما إن ظهر لنا يقيناً أنهم أحقر وأذل وأضل وأصغر من ذلك، فيقف الإنسان بهم عند حدهم ولا يجاوز بهم إلى مقام الربوبية.

ولقد اقترنت دائماً صفة إفراد الله عز وجل بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى، وفي هذا إشارة إلى أن من اتصف بهذه الصفات هو الذي يستحق أن يكون له الحكم من دون الله قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:١٠ - ١١]، ومن أجل ذلك لا حكم إلا لله؛ لأنه هو الذي فطر السماوات والأرض، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤] أي: له الخلق وله الأمر؛ لأنه الذي خلق، أما أن يخلقنا الله ويرزقنا فنتجه بالعبادة وبالتوحيد وبالحاكمية إلى غير الله فهذا كفران بنعم الله عز وجل، وصرف للعبادة إلى الأنداد والأضداد من دون الله تبارك وتعالى.

فانظر إلى الصفات التي ذكرها الله عز وجل، ثم أعقبها قوله عز وجل: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) من هو الذي له الحكم وحده؟ ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)) [الشورى:١٠] هو ربي الذي خلقني، فهل هؤلاء أرباب، أم هم الذين خلقونا؟ ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) من هو أيضاً؟ ((فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، هل عبد الرزاق السنهوري، أو أبو جهل العربي أو المصري أو أي إنسان ممن شرعوا من دون الله ووضعوا القوانين التي تحاد شريعة الله؟! هل يتصف بصفة واحدة من هذه الصفات؟ هل هو فاطر السماوات والأرض؟! هل جعل لنا من أنفسنا أزواجاً؟ هل ليس كمثله شيء، أم أنه عبد حقير ذليل ليس له إلا أن يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله؟ فانظر كيف كفر العباد بدين ربهم تبارك وتعالى، وضللهم عن أصول هذا التوحيد.

{فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:١١ - ١٢]، هل في المشرعين من يستحق هذه الصفات؟! يقول عز وجل: {لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:٢٦]، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨] هل الذين يشرعون من دون الله ينطبق عليهم قولنا: لا إله إلا هم، أو كل شيء هالك إلا وجوه هؤلاء، أم أن هذه الصفات يستأثر بها الله تبارك وتعالى؟! {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٢]، هل فيهم من يتصف بأنه علي وكبير؟ {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:٧٠ - ٧٣].

وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:٥٧]، هل في هؤلاء الأنداد الأرباب الذين يعبدون من دون الله حين يحلون ويشرعون بأهوائهم، هل فيهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين؟! هناك جملة من الآيات تقترن فيها صفات الله تبارك وتعالى؛ تلك الصفات التي لا يوصف بها أيُّ من الفجرة الكفرة المشرعين للنظم الشيطانية، ولا يدعيها أي أحد منهم؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وأيضاً لما كان التشريع وجميع الأحكام سواء كانت أحكاماً شرعية أو أحكاماً كونية قدرية هي من خصائص الربوبية، فكل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله فقد اتخذ ذلك المشرع رباً وأشركه مع الله، فمتى أعطيت حق التشريع وأقررت به لهؤلاء الذين تعلم أنت أنهم يضادون حكم الله ويخالفون شرع الله تبارك وتعالى، وأطعتهم في ذلك بنفس التفصيل الذي قدمناه من قبل فقد اتخذتهم شركاء وأنداداً من دون الله تبارك وتعالى.

إن الشيطان أوحى إلى أوليائه فقال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة، من الذي قتلها؟ فمما يروى أنه أجابهم أن الله هو الذي قتلها أو أخذ روحها، فقالوا: الميتة إذاً ذبيحة الله، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام، مع أنكم تقولون: إن ما ذبحتموه بأيديكم حلال؟! فهل أنتم أحسن من الله؟ فأنزل الله عز وجل بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، يعني: الميتة، حتى وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب، {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:١٢١]، يعني: أن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه خروج من طاعة الله واتباع لتشريع الشيطان، ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:١٢١]، فهذه فتوى سماوية من الله عز وجل بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله العظيم.

ويقول عز وجل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:١٠٠]، وقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:٦٠ - ٦١]، فكل من اتبع هذه التشريعات الشيطانية التي يوحيها الشيطان إلى أوليائه يكون قد عبده من دون الله تبارك وتعالى.

ويقول تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:٣١]، لما سأل عدي بن حاتم: كيف اتخذوهم أرباباً؟ أجابه عليه الصلاة والسلام فقال: (إنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله)، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً من دون الله.

ومن أصرح الأدلة في أن الكفار كانوا إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه، وإذا حرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم بذلك يزدادون كفراً جديداً مع كفرهم الأول، قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ} [التوبة:٣٧]، فقد كان الجاهليون يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر، فهذا هو النسيء، فهذا من تشريعاتهم الباطلة، فلذلك قال تبارك وتعالى في حقهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، معاندة ومضادة لتشريع الله تبارك وتعالى، مع أنهم كانوا كافرين أصلاً إلا أنهم لما وقعوا في هذا الأمر الجديد زادوا كفراً على كفرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>