[القول بنجاته]
وهذا القول قال به الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، وبعض الشافعية من الفقهاء، واستدل هؤلاء بالأدلة الآتية: أولاً: قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، فأخذوا من هذا أن هؤلاء كانوا في فترة، ولم تبلغهم الحجة الرسالية، فلن يعذبهم الله بنص هذه الآية ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، وهؤلاء لم يبعث إليهم رسول، أو لم تبلغهم دعوة الرسل.
ثانياً: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، يعني: بعد بعثة الرسل.
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قطع الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، حتى لا يعتذروا يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ولا نذير ينذرهم هذا اليوم، وأهل الفترة لم يأتهم نذير ولا بشير، فالحجة قائمة معهم، فدلت الآية على أنهم لا يعذبون، فهم في الجنة.
ثالثاً: قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:٩]، فـ (كلما) صيغة عموم، والمعنى أن كل من يدخل النار سوف يوجه إليه هذا الكلام، فالملائكة تبكتهم وتوبخهم بقولها: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)) فيجيبون بقولهم: ((بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ))، ومعنى ذلك أن كل من دخل النار قد بلغته حجة الرسل ونذارة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهذا يدل على أن الذين يدخلون النار هم ممن بلغتهم الحجة الرسالية؛ لقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:٨ - ٩].
رابعاً: قوله تبارك وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:٧١]، فقوله عز وجل هنا: ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)) يعم جمع الكافرين الذين يدخلون جهنم والعياذ بالله، وتوبخهم الملائكة، بقولها لهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) فيجيبون بقولهم: ((بلى)) أي: جاءتنا الرسل ((وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)).
أما أهل الفترة فلا يدخلون في هؤلاء؛ لأنهم لن يقولوا: ((بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ))، فهم غير مؤاخذين، أي: فهم في الجنة.
خامساً: قوله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:١٣٠]، فهنا يخاطب الله تبارك وتعالى خلقه من الجن والإنس بقوله: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) فيجيبون بقولهم: ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))، فأشهدهم الله على أنفسهم وأقروا بتلك الشهادة، واعترفوا بأن الرسل قد بلغتهم آيات ربهم وأنذرتهم يوم القيامة، لكن أهل الفترة ليسوا بهذه المثابة، فلا يعذبون، فهم من أهل الجنة.
سادساً: قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:٥٩] ووجه الدلالة أن الله عز وجل لا يظلم أحداً من خلقه، فلا يمكن أن يعذب أمة دون أن يرسل إليها رسولاً فتكذبه فتكون ظالمة بهذا التكذيب، وعندئذٍ تستحق عقاب الله تعالى لها بالإهلاك والاستئصال، لكن أهل الفترة لم تأتهم رسل، ولم يكذبوا الرسل، فهم معذورون لأجل هذا، ولا يستحقون عقاب الله، فهم في الجنة.
سابعاً: قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:١٩] يعني: لم يبق لكم حجة، ويوم القيامة لن تستطيعوا أن تقولوا: ((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ))، فقد جاءكم البشير والنذير، فوجه الدلالة هنا أن الله عز وجل أخبر أهل الكتاب أنه قد أرسل إليهم رسولاً يبين لهم أمور دينهم، ويحذرهم من عقابه إن هم عصوه، وقد قامت الحجة عليهم بذلك، لكن أهل الفترة معذورون حيث لم يأتهم رسول، ولذا فهم غير مؤاخذين، فهم في الجنة.
ثامناً: جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب) يعني: لا يوجد أحد يحب الإعذار وإقامة الحجة مثل الله تبارك وتعالى، وفي رواية أخرى: (ما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
فأهل الفترة لم ترسل إليهم الرسل، ولذا فهم في الجنة.