[الصلاة خلف أئمة المسلمين]
فحديثنا سيكون -بإذن الله تعالى- عن قضية من القضايا المهمة التي نتطرق إليها، والتي هي ثمرة من ثمرات الفكر الخبيث الذي ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:٥٨]، فهذه الجماعة الخبيثة أعادت فكر الخوارج -وهي المسماة بجماعة التكفير والهجرة- ومن سار على دربها اجترأ المنتسبون إليها على حدود الله تبارك وتعالى كثيراً، ومن هذه الجرأة موقفهم من المساجد التي هي بيوت الله عز جل، وقضية الصلاة خلف عموم المسلمين في مساجدهم في بلاد المسلمين.
فنبدأ أولاً بدراسة شرح ما يتعلق بهذه القضية من متن العقيدة الطحاوية، حيث يقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم).
يقول الشارح رحمه الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر)، وقد استعمل الشارح عبارة الحديث مع أنه ضعف الحديث، فقال: رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة.
وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً، وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر أو فاجر، وإن هو عمل بالكبائر، والجهاد واجب مع كل أمير بر أو فاجر وإن عمل الكبائر)، وفي هذا الحديث -أيضاً- ضعف، وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً.
ومعروف فسق الحجاج وجرأته على إراقة دماء المسلمين، بل خيار المسلمين رضي الله عنهم.
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده إلى عمير بن هانئ قال: شهدت ابن عمر والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء وربما حضر الصلاة مع هؤلاء.
وهذا سند صحيح، وأخرجه البيهقي -أيضاً- بلفظ: عن عمير بن هانئ قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج، فأتيته وقد نصب على البيت أربعين منجنيقاً -حيث ضرب الكعبة بالمنجنيق- فرأيت ابن عمر إذا حضر في الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم؟! فقال: يا أخا أهل الشام! ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق.
يعني: أنا لا أثني على ما يفعلونه من الشر، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق.
وروى الشافعي بسنده عن نافع أن ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج، فصلى مع الحجاج، وروى ابن سعد في الطبقات عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أميراً إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله.
وسنده صحيح.
وأيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان، قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؟! قال: فيقول: لا والله، ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة.
يعني أن صلاة الأئمة في المساجد يعتدون بها حتى ولو كانوا من الظلمة أو الفاسقين ما داموا على أصل الإسلام.
وفي المجموع قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: الصلاة وراء الفاسق صحيحة ليست محرمة، لكنها مكروهة، وكذا تكره وراء المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وتصح، ونص الشافعي في المختصر على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فإن فعلها صحت، وقال مالك: لا تصح وراء فاسق بغير تأويل، كشارب الخمر والزاني، وذهب جمهور العلماء إلى صحتها.
يقول شارح الطحاوية: وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً.
وفي صحيحه -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم)، يعني الأئمة في عهود الإسلام الأولى، حيث كان -كما هو في حكم الإسلام- الذي يلي الإمامة والجماعة الجامعة للمسلمين الخليفة أو الحاكم أو الوالي، وكالمحافظ اليوم مثلاً، وهذا هو شأن الصلاة، حيث ينبغي أن يكون أول من يتولاها ويحاسب من يتخلف عنها هو الإمام، فكان الذي يلي إمامة الصلاة من الأئمة قد يكون ظالماً أو فاسقاً.
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلوا خلف من قال: (لا إله إلا الله)، وصلوا على من مات من أهل (لا إله إلا الله))، أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
يقول الشارح رحمه الله: اعلم -رحمك الله وإيانا- أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة.
إذاً: هذا اتفاق بين أئمة الإسلام، وهو أنه يجوز لك أن تصلي خلف الشخص الذي لا تعرف عنه بدعة ولا فسقاً.
يقول: وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول له: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال.
ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه -أي: حيث لا يوجد سوى هذا المسجد، ولا يوجد إمام إلا هذا الإمام المعين الذي هو الإمام الراتب بالمسجد- كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء.
يعني: لو كان الإمام مرتكباً بدعة لا تكفره، ولا مناص من الصلاة خلفه، فمن صلى في البيت لأجل بدعة الإمام صار هو المبتدع, أو صار حرياً بأن يوصف بأنه مبتدع.
يقول: ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر.
وفي صحيح مسلم عن طريق حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان وأتي بـ الوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم.
فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال: عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها.
فقال: يا علي! قم فاجلده.
فقال علي: قم -يا حسن - فاجلده.
فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها.
فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر! قم فاجلده.
فجلده علي بعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك.
ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكلٌ سنة، وهذا أحب إلي.
والشاهد أن هذا رجل فاسق كان يشرب الخمر، ومع ذلك صلى خلفه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وفي الصحيح أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير البررة وقتيل الفجرة لما حصر صلى بالناس شخص آخر غير الإمام الذي هو عثمان رضي الله عنه، فسأل سائل عثمان وهو في الدار قد حاصره الثوار الفجرة فقال: إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة.
فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم.
أخرجه البخاري من حديث عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج.
فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا تجنب إساءتهم.
فهذا هو المقياس المنضبط في الحكم على مثل هذه الأمور، فهذه العبارة عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، وأن يحفظها كل منا حتى يلقمها كل من يشخط الكلام ويتشدق بهذه البدع الإبليسية ويقوم بطرد الناس عن بيوت الله تبارك وتعالى وتخريبها، فماذا يبقى إذا خربت هذه القلاع المتبقية التي منها تنطلق الدعوة إلى الإسلام، ويحفظ على الناس دينهم؟! فما من شك في أن في هذا مضادة لمقاصد الشريعة الإسلامية العليا، فينبغي أن يحفظ الناس هذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه، وهو يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
يقول الشارح: والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحي