[تقرير كفر من ارتكب المعصية إذا استحلها]
يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى أي: لا نكفر من ارتكب المعصية إلا إذا استحلها، وأشرنا إلى عمل القلب في أمر المعاصي، وفي التفريق بين الكفر والإيمان، فهناك عمل القلب وهناك عمل الجوارح، سواء في الطاعات أو المعاصي، فالشخص الذي يسرق ويشرب الخمر ويفعل الفواحش له شقان: شق هو اعتقاد قلبه تجاه هذه الأشياء، وشق يتعلق بالناحية العملية، وإذا ارتكب شخص شيئاً من هذه المحرمات فهنا يعد عاصياً فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة أو ذنباً من الذنوب، ولا يكفي هذا لتكفيره؛ لأنه ما زال في قلبه التصديق بأن هذا الشيء حرام، إنما غلبه هواه أو زين له شيطانه أو حرضه رفقاء السوء، أو أي عامل من العوامل التي مهدت له الوقوع في هذه المخالفة، لكنه بقلبه يعتقد أن الخمر حرام وأن السرقة حرام، فهذا نوع من الجريان مع الهوى والميل مع الشيطان، فلا يكفي ذلك لتكفيره، بل هذا ينقص إيمانه.
رجل آخر لا يشرب الخمر ويقول: إنها تضر بالصحة، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفراً أكبر، حتى ولو لم يذق قطرة من الخمر، وخارج من الملة مثل: فرعون وهامان وأبي لهب؛ لأن هذا استحل بقلبه وإن لم يفعل بجوارحه هذه المعصية.
إن اعتقاد المسلم هو وجود عمل القلب بالتصديق بحكم الله في هذه المسائل حتى في حالة المعصية، ولذلك يفرق بين المسلم مرتكب المعصية الذي يفسق بفعلها، أو ينقص إيمانه بفعلها، وبين الشخص الذي لم يفعل المعصية لكنه كافر لاستحلاله إياها بقلبه.
وأشرنا من قبل إلى الأدلة التي تثبت أن فاعل المعصية لا يخرج من الملة، وذكرنا بعض هذه الأدلة سواء من القرآن الكريم أو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن قتل النفس التي حرم الله هذا من الكبائر، واقتتال طائفتين من المسلمين هو من أكبر الكبائر، ورغم ذلك أثبت لهم القرآن أخوة الإسلام، فقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:٩] قوله: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) أثبت لهم صفة الإيمان.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:٩].
هذا قتال بغاة، وفرق كبير في الأحكام الفقهية بين قتال البغاة وقتال الكفار، مثلاً في قتال الكفار الأسير الجريح تجهز عليه؛ لأنك تستحل دمه، وإذا فر تتبعه حتى تقضي عليه، وتسبى نساؤهم وتغنم أموالهم.
وقتال البغاة هذا لم يقع أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة).
يعني: أنه أول من طبق فقه قتال أهل القبلة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم في الفتنة الكبرى حينما اقتتل جيش علي وجيش معاوية رضي الله عنهما، كانوا إذا أتى وقت الصلاة يوقفون القتال ويصلون، وكان إذا قتل أي واحد من القتلى أي فريق من الاثنين يأخذه ويصلي عليه ويكفنه ويؤدي حق المسلم معه، ولم يسبوا نساءهم ولم يستحلوا أموالهم، وما كانوا يجهزون على الجريح؛ لأن المقصود كما قال الإمام الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل؛ قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، والبغاة عبارة عن طائفة من المسلمين تخرج بتأويل سائغ على الخليفة، تكون لها قوة ومنعة وزعيم ومطالب محددة أو تأويل لبعض النصوص؛ فيخرجون على الخليفة الحق، فهؤلاء تطبق عليهم أحكام قتال البغاة، ولم يحصل هذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن وجود الرسول عليه الصلاة والسلام كان رحمة للأمة من أن يصطرعوا أو يتقاتلوا، لكن وقعت الفتنة كما قدر الله تبارك وتعالى فحصل ما حصل، فلذلك كان أول مجال عملي طبق فيه فقه مقاتلة البغاة هو الحرب بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فلذلك لم يحصل سبي للنساء؛ لأن هذا فرق بين قتال المسلمين وقتال الكافرين، ولذلك الخوارج كفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وخرجوا عليه، قالوا: لماذا لا تسبي نساءهم؟ فقال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها؟ فلم يحصل أي شيء.
إذاً: المقصود من قتال البغاة هو إضعاف شوكتهم وليس المقصود استحلال دمائهم، فلذلك إذا فر من المعركة وهرب لا يتبعه أحد، وإذا جرح وعجز عن مواصلة القتال لا يجهز عليه، ولا تسبى النساء، ولا تغنم الأموال، ولكن الكافر يباح دمه ويقتل ويجهز عليه كما هو معلوم.
الشاهد أن التطبيق العملي لهذه الآية التي تتحدث عن قتال البغاة تؤكد أن المعاملة كانت بين جيشين متقاتلين معاملة البغاة، وليست معاملة المرتدين أو الكافرين.
أيضاً الذي يقتل أخاه لأي هوى دافع من العصبية أو الصراع على دنيا أو أي شيء، قال تبارك وتعالى عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨] القصاص لا يحصل إلا بعد أن يكون هناك قاتل ومقتول، ومع ذلك خاطبهم بلفظ الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، أي: إذا عفا ولي الدم عن القاتل؛ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨]، فأثبت لهم الأخوة مع وجود هذه المقاتلة.
{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:١٧٨].
لوكان هذا القاتل مرتداً لما سماه الله أخاً؛ لأنه لا أخوة البتة بين مؤمن وكافر.
كذلك حاطب بن أبي بلتعة، مع أنه من البدريين رضي الله عنه فقد ارتكب معصية كبيرة من الكبائر، حينما أرسل كتاباً إلى أهل مكة من المشركين يخبرهم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم ويقصد مقاتلتهم وغزوهم، وأنه جهز جيشاً لفتح مكة، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه فتتبعوا المرأة التي كانت تحمل هذه الرسالة، وفعلاً هددوها إما أن تخرج الكتاب، وإما أن يرفعوا الثياب ويكشفوها حتى يفتشوا عن ذلك، فأخرجت المرأة هذا الكتاب وأحضروه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحينئذ نزل قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا)) خاطبه بوصف الإيمان مع ارتكابه لهذه المعصية الكبيرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:١].
حينئذ اعتذر حاطب رضي الله تعالى عنه بأن كل واحد من الصحابة له عصبة ورجال يحمون ذويهم في قريش من الكفار، فهو أراد أن يبذل بعض الجميل للكفار؛ لأنه ليس له ولا لذويه في قريش هذه المنعة، فأراد أن يصنع لهم يداً بحيث يكفوا شرهم عن أهله في مكة، فمن أجل هذا التأويل تجاوز له الله عن هذا الفعل؛ لأنه لم يقصد خيانة الله ورسوله، فحينما استأذن عمر رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب عنق حاطب، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فحينئذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أن عمر رضي الله عنه وصف حاطباً بالنفاق، مع ذلك امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله بهذا الفعل؛ لأنه باق على أصل الإسلام مع ارتكاب هذه المعصية، والمقصود من قوله: (لعل الله اطلع على أهل بدر)، يعني: علم ما خواتيم جميع من شاركوا في غزوة بدر، وأن كلاً منهم إذا أذنب رجع إلى الله عز وجل، وليس معناه أن بدرياً يستحل المعاصي، ويقول: أنا بدري وسيغفر الله لي، لكن معناه أن الله اطلع على خواتيمهم، وعلم من شأنهم وأحوالهم أنه لا يوجد بدري إلا إذا أذنب ذنباً يتوب منه، ولا يصر عليه فيتوب الله عليه.
كذلك ليس كل من خاض في حديث الإفك من المنافقين، بل فيهم مؤمنون كما هو معلوم، ومع ذلك أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢]، المقصود منها أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان له قريب يدعى: مسطحاً، وكان أبو بكر ينفق عليه ويتصدق عليه، فحينما وقع في أم المؤمنين أقسم أبو بكر رضي الله عنه أن يقطع عنه هذا الرزق، فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٢٢]، فحينئذ قال أبو بكر رضي الله عنه: (بلى يا رب والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرد على مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً).
وإنما كان ذلك لما أظهر مسطح الندامة.
والإنس