إذا كان السلف قد عذروا الجهمية والمعتزلة رغم ما ذهبوا إليه من تعطيل صفات الله عز وجل، وعذروا من أنكر الشفاعة، وليس المعنى أنهم لم يؤثموا ولم يبدعوا ولم يفسقوا، لكن المعنى: لم يكفروهم بأعيانهم؛ لأجل شبهة التأويل التي وقعوا فيها؛ فالخوارج مثلاً: أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحاب الكبائر، وأنكروا أيضاً كثيراً من أحوال الآخرة، والمعتزلة أنكروا رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فالسلف عذروا أهل الأهواء في الجملة فلم يكفروهم بأعيانهم، فإذا صلح التأويل عذراًَ مع اثنتين وسبعين فرقة من ضُلاّل هذه الأمة فينبغي ألا يتخلف هذا العذر مع هؤلاء الصوفية الجهال، خاصةً العوام منهم الذين لا علم عندهم، وإنما يلبس عليهم بمثل هذه الشبهات وهذه التأويلات الفاسدة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا بدعة ابتدعها -ولو دعا الناس إليها- كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بيان بعض ما تأوله من البدع؛ فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ونحن إذا طالعنا الأحاديث التي وردت في الخوارج، وكيف تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم حينما قال:(يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم)، وقوله:(لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقوله: (اقتلوهم فإن في قتلهم ثواباً أو أجراً لمن قتلهم).
وهكذا أمر عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الخوارج، وبالفعل وقع ذلك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ما كانوا عليه من الاجتهاد في العبادة، وكانوا من أظهر الناس بدعة بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشد الناس قتالاً للمسلمين كما جاء في صفاتهم في بعض الأحاديث:(يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، ووصفهم أيضاً بأنهم:(سفهاء الأحلام، أحداث الأسنان)، أي: شباب طائش حديث السن، وبنفس الوقت سفهاء العقول والأحلام والنُهى، ووصفهم بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، هذه سنتهم وطريقتهم في كل زمان، حتى الخوارج المعاصرون اليوم تجدهم مع اليهود مع النصارى والفساق في منتهى الرقة والأدب والتلطف والبشاشة، وتجد الواحد منهم مع المسلمين -وبالذات الملتزمين بدينهم منهم- فضاً غليظ القلب، ومن جرب حالهم وسبر أغوارهم فإنه يعرف هذا الأمر منهم، وقد رأينا هذا منهم كثيراً، فهذه صفتهم، وكانوا أشد الناس قتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع كل هذا، لا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو الذي قاتلهم بنفسه- ولا غيره، مع ما يفعلونه من الفساد في الأرض، وقتل أولياء الله الصالحين، وسئل علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
يقول شيخ الإسلام: بل حكموا -أي: السلف- فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً -بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن- لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة منهم، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل وخالف إجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات.
هذا في النموذج ذكرناه فيما يتعلق بالتأويل في قضية العبادة ودعاء غير الله، وما يتذرع به القوم من الشبهات في باب الحكم.