[حكم صرف العبادة لغير الله]
العبادة مرتبطة بأصل الدين، وصرف العبادة لغير الله عز وجل يعتبر شركاً أكبر، فكون العبادة المرتبطة بأصل الدين والتي يعتبر صرفها لغير الله عز وجل شركاً أكبر ليست هي مطلق الطاعة، وإنما الطاعة التي تنبثق من كمال المحبة والتذلل.
فمن خضع لإنسان مع عدم حبه له لا يكون عابداً له، فالعبودية تتكون من شقين، غاية الحب مع غاية الذل والانقياد، قد يحصل ذل وانقياد، لكن مع بغض ومقت وكراهية، كشخص يكره الضابط في الدين كراهية شديدة، لكنه يطيعه وينقاد لأوامره هذا لا يسمى عبودية؛ لأنه فقد أحد الركنين، وجدت الطاعة والانقياد، لكن مع البغض والمقت والكره، فليست هذه عبودية، والعكس: قد يدعي إنسان محبة إنسان، أو يدعي محبة الله مثلاً أو محبة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم لا يخضع ولا ينقاد لحكمه، فهذا أيضاً ينافي العبودية.
فالعبودية كمال الحب مع كمال الذل والطاعة والانقياد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قال بعض المفسرين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥]، يعني: والذين آمنوا في حبهم لله أشد حباً لله من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، أما القول الثاني فهو: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥]، من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، يعني: أن المشركين قد يحبون الله عز وجل، لكنها محبة فيها شرك، أما المؤمنون فإنهم يمحضون ويخلصون حبهم لله ويجردونه؛ فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت الأنداد بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من التي فيها شرك.
مقصود الكلام: أن المحبة الشركية هي المحبة مع الله، لما تتضمنه من التأله لغير الله، والتعلق به، والرغبة إليه، وإنما كانت شركاً لما يقع في قلوب أصحابها من التعلق لغير الله رغباً أو رهباً، بخلاف المحبة في الله كحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من عباد الله، فإنها من جنس الطاعة لله؛ لأنها تابعة لمحبته ولازمة له.
هل محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام محبة مع الله؟! كلا.
هذه من توابع ولوازم محبة الله، فأنت تحب من يدلك على الله، وتحب من يسير على طريق الله، فهناك محبة في الله، ومحبة لله، وهناك محبة مع الله وهي المحبة الشركية.
فالطاعة الشركية هي التي تنبثق من هذا الحب الخاص: حب التأله والتنسك، وليس من مطلق الحب، وذلك عندما يكون النظر إلى ذاك المطاع -مع غض الطرف عن موضوع الطاعة- على أنه هو الآمر، فمهما أمر فإنه يطاع حكمه حتى لو أمر بحرام أو بغير ذلك، فما أثبته الكاتب من أن قبول التكليف من غير الله عز وجل، أو الطاعة في التشريع شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف من حيث موافقة الشريعة أو مخالفتها يجب أن يقيد بما إذا كان منبثقاً عن الحب الخاص؛ حب التأله والتنسك لغير الله عز وجل.
فما دام الكاتب يريد أن يسبغ وصف الشرك على الطاعة باعتبار المصدر فقط -بغض النظر عن موضوع الطاعة- فلابد أن تقيد الطاعة بأنها الطاعة التي تستند إلى المحبة الشركية، فهذه هي الطاعة التي يصدق عليها وصف الشرك الأكبر، والتي تخرج صاحبها من الملة بلا تردد، لكن إذا اعتبرنا موضوع الطاعة فهنا تتسع الدائرة، ويقال: إن للطاعة الشركية مأخذين: المأخذ الأول: باعتبار مصدرها.
المأخذ الثاني: باعتبار موضوعها.
فباعتبار مصدر الطاعة الشركية: من كانت طاعته لغير الله عز وجل مبنية على المحبة الشركية التي تتضمن تعلق القلب بغير الله رغباً ورهباً وحباً وتألهاً، أي: أن الحب الذي ينبغي أن يصرف لله وحده صرفه الشخص تماماً إلى غير الله عز وجل، فهذا قد أشرك شركاً أكبر بغض النظر عن موضوع الطاعة؛ لأنه نظر إلى عين وذات الآمر، وأعطاه هذا الحق نتيجة المحبة والرغبة والرهبة، فصرف هذه المحبة إلى غير الله بهذه الصورة، فصارت محبة شركية يطيع الآمر فيها، بغض النظر عما يؤمر به أو ينهى عنه، فهذا من جنس الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله؛ لأنه أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله، فصرف هذه المحبة التي لا ينبغي ولا تكون إلا لله إلى غير الله عز وجل، فانبثقت عنها الطاعة المطلقة، بغض النظر عما يؤمر به، فهذا باعتبار النظر إلى مصدر هذا التشريع.
المأخذ الثاني: باعتبار موضوع الطاعة: فمن كانت طاعته لغير الله عز وجل غير مبنية على المحبة الشركية، ولا على الإقرار لغير الله بالحق في التشريع المطلق؛ فقد تجاوزت الطاعة في هذه الحالة وصف الشرك باعتبار المصدر، وبقي أن ينظر إلى موضوع التكليف أو الطاعة؛ فطاعته ليست مبنية على المحبة الشركية التي ذكرناها في القسم الأول، وليست مبنية على أنه يقر لغير الله بحق التشريع المطلق، فحينئذ تتجاوز هذه الطاعة مسألة أصول الدين، وعقد الإسلام، ويبقى النظر في موضوع التكليف أو الطاعة، فإن كانت الطاعة في شرك فهو حينئذ يصبح مشركاً، وإن كانت الطاعة في معصية فهذا ذنب من الذنوب، فإذا تضمنت طاعته رد حكم الله أو انعكست بالخلل على أحد ركني أصل الدين: التصديق أو الانقياد كانت كفراً، وإن لم تكن كذلك تفاوت الحكم فيها باعتبار الموضوع حتى تصل إلى درجة المباح، إذا كانت طاعة في الأمور العادية التي سكتت عنها الشريعة وتركت أمر تنظيمها إلى العباد.