ساق بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه:(أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنبأني عن حارثة أصيب يوم بدر، فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال: يا أم حارثة، إنها جنان في جنة، وإنه أصاب الفردوس الأعلى) رضي الله عنه، فهذا نص على أنها جنان في جنة، يعني: الجنة الكبرى مكونة من جنان تتفاوت في منازلها وسعتها وشرفها.
قال أبو بكر بن خزيمة: قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة وبُعد ما بين الدرجتين، منها: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء، لتفاضل ما بينهم، فهم يتراءون وينظرون إلى منازلهم وهم في الجنة كما تنظرون أنتم وأنتم في الأرض إلى الكوكب الدري الغابر في أفق من آفاق السماء، كم يكون بعيداً عنكم؟! فهذا تفاضل ما بين أهل الغرف وأصحاب الغرفات، هؤلاء الذين شرفهم الله بهذه المنزلة، فهذا يدل على أن الجنة نفسها درجات، كما قال تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}[آل عمران:١٦٣]، فدرجات الجنة تذهب علواً ودركات النار تذهب سفلاًً.
وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم لما حكى هذا الحديث وأخبرهم:(أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء؛ لتفاضل ما بينهم، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال: بلى، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، يعني: هذه المنزلة قد يبلغها أناس ليسوا من الأنبياء ولا من المرسلين، بل هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
يقول: وأمليت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام، بين كل درجتين مسيرة تقطع في مائة سنة.
فمعنى هذه الأخبار التي فيها ذكر أن من يرتكب بعض الذنوب لا يدخل الجنة، أي: لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين إلا الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والحوبات والخطايا.
ثم قال: وقد يجوز أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة.
يريد لم يدخل الجنة التي يدخلها من لم يرتكب هذه الحوبة؛ لأنه يحبس عن دخول الجنة إما للمحاسبة على الذنب، أو لإدخاله النار ليعذب بقدر ذلك الذنب، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب العقاب، إن لم يسمح الله ويصفح ويتكرم فيغفر ذلك الذنب ويدخل الجنة مع أول الداخلين، بل يحبس حتى يقتص منه، أو إذا كان الذنب يستوجب النار فيدخل النار فترة حتى يتطهر، ثم يدخل الجنة إن كان مات على التوحيد، فهذه الأخبار إذا لم تحمل على هذه المعاني كانت على وجه التهاتر والتكاذب، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) يعني: ظنوا بكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن وأهدى الظن، وأهدى الفهم وأتقاه لله وأهناه.
فخلاف هذا المسلك الذي سلكه العلماء هو مسلك القاصرين الجهلاء الذين ينظرون بعين واحدة هي عين الرجاء، أو عين التخويف والوعيد والتهديد دون أن يجمعوا بين النصوص بهذا الجمع.