[خلافات التكفير بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة]
الكلام في هذه القضية له خلاف كبير بين الناس، وكل من ينتمي إلى الاتجاهات الإسلامية التي تجعل الإسلام مبدأها ومعادها والحاكم عليها، والخلاف فيها إنما هو خلاف نظري إلى حد بعيد.
فهناك اتفاق بين كل من ينتمي إلى هذا الدين وللدعوة الإسلامية على أن من كذب بحكم الله، أو رد حكم الله عناداً واستكباراً، فهذا كافر كفراً أكبر خارج عن الملة، حتى الذين يعتقدون أن الإيمان هو التصديق، فهم لا يطيقون هذا التعبير، ويضيفون إليه ضابطاً وقيداً هو: والتصديق الذي يستلزم الانقياد، والدليل على ذلك: حال المشركين والكافرين، فأئمة الكفر صدقوا أن الرسول رسول من عند الله، لكنهم لم ينقادوا لشرعه.
فالخلاف الذي يقع في هذه القضية هو الخلاف في ناحية التطبيق وليس في الناحية النظرية، وهذا ينبغي استصحابه عند مناقشة مواقف الجهات الإسلامية من قضية التكفير، فلابد أن يستحضر الإنسان أن الذي يخالف في هذه القضية هو لا يدافع عن الكفر، هو في الحقيقة يصف الكفر بأنه كفر، فلا نتصور مسلماً أبداً يصح له إسلامه وهو يعتقد أن من كذب بحكم الله، أو رد حكم الله، أو طعن في حكم الله يبقى له من الإسلام قيد شعرة، فهذا لا يختلف عليه، لكن الكلام هو في الجانب التطبيقي منه، وبالذات تطبيق صورة الرد، متى نحكم على شخص أنه رد حكم الله؟ التكذيب لا يقع إلا في النادر، والتكذيب الصريح يتحاشى الطواغيت الوقوع فيه، وإنما هم يستترون في الغالب وراء التكذيب المقنع، فمنهم من يصرح، ومنهم من يلمح، ومنهم من يلتمس وينتحل المعاذير.
فمن الظلم البين في هذه القضية ذلك السلاح الذي يشهره بعض أصحاب الاتجاهات، فهو عندما يشعر بالوحشة بسبب ما هو فيه من البدعة، فيحاول أن يستأنس ويزيل هذه الوحشة، بالذات إذا كان مخالفوه على شيء من العلم، فيحاول أن يمارس نوعاً من الإرهاب الفكري، ويشهر السيف المعروف وهو قاعدة: من لم يكفر الكافر فهو كافر، وسنأتي إلى ذلك بعد بالتفصيل، لكن هذه صورة من صور التكذيب: أنك إذا لم توافقه تصير أنت أيضاً كافر، إذا ما كفرت فلاناً باسمه فتصير أنت أيضاً كافر؛ لأن هذا يعني أنك راض بكفره، والرضا عن الكفر كفر.
وهذه مزلة خطيرة لابد للإنسان أن ينتبه في هذه الحال، فالشخص الذي يتورع عن التكفير هو لا يدافع عن الكفر، ولا يخاف على الحاكم بغير ما أنزل الله بقدر خوفه على نفسه هو؛ لأنه يستحضر حينئذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، إن أخطأ في هذا الأمر سوف يرتد إلى الكفر.
ونبهنا مراراً: أن أولى الناس بالحذر والخوف والتورع في جانب التكفير هم الذين يعتقدون أنه ليس هناك كفر دون كفر؛ لأنه إذا أخطأ في تكفير شخص من المسلمين وهو في الحقيقة مسلم، فإن لم يكن كافراً في الحقيقة فسوف يعود عليه حكم الكفر، لكن كيف يفهم هو هذا الحديث: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا حارت أو عادت عليه) هل هو يعتقد: أن هذا كفر دون كفر كما يعتقد أهل السنة والجماعة في من أخطأ في الحكم على غيره؟ لا، هو يعتقد أنه سيخرج من الملة، وسيصير مثل فرعون وهامان وقارون وغيرهم من أئمة الكفر، فلذلك هو أولى بالتورع؛ لأنه إذا أخطأ فسوف يدخل عليه -في نظره هو- كفراً أكبر، فينبغي أن يكون حظه من الاحتياط والتورع أعظم من غيره ممن يعتقد أنه إذا أخطأ ستكون مجرد معصية.
فرفع سلاح: من لم يكفر الكافر فهو كافر.
هذه صورة من الإرهاب الفكري، وفي نفس الوقت صورة من الانحراف العلمي؛ لأنه هو غير راض بكفره؛ لأن الخلاف في الجانب التطبيقي فقط.
فما في شك أن من اشتبهت عليه قضايا مثل الحكم بالكفر ليس أمراً هيناً، وإنما يترتب عليه من الآثار العظيمة في الدنيا والآخرة ما الله به عليم، ويكفي من بعض هذه الآثار في الدنيا فقط ما رأينا من وقوع القوم في استحلال كثير من المحرمات، وانتهاك الأعراض حينما يكفرون شخصاً، ويأخذون بعض نسائهم ويتزوجونهن، وهو غارق في وحل الكبيرة والفاحشة، ويتصور أنه يطبق حكم الله عز وجل؛ لأن هذه امرأة رجل كافر، وهو أنقذها من أن تكون زوجة لهذا الكافر الذي يكفره هو، فيستحلون الأعراض والأرواح، والأموال، ومعروف في التاريخ التصفية الدموية التي كان يمارسها الخوارج المعاصرون من جماعة شكري مصطفى، وما أحدثوه من الفساد العريض في الأرض.
فهذا خطأ يترتب عليه سلوك عملي، وليس مجرد ترف فكري، أو خلاف شكلي، إنما الذي يترتب عليه استحلال كثير من المحرمات، فالتورع في هذا الباب لمن يخشى الزلل والسقوط أمر محمود، ولا ينبغي أن يعاقب ولا يلام عليه فضلاً عن وصفه بأنه ينطبق عليه: من لم يكفر الكافر فهو كافر.
فهو في الحقيقة يكفر الكافر كنوع، أما التعيين: فإذا قال الشخص مثلاً: أنا أقول ما يقوله العلماء، أو إذا وجد قضاء شرعي يحكم في هؤلاء بحكم الله، فهذا أحسن ما يتخلص به الإنسان من الوقوع في ورطة القول على الله تبارك وتعالى بغير علم.
فالحقيقة أن الخلاف التطبيقي إنما يكاد ينحصر في: كيف نحكم على الشخص أنه رد حكم الله؟ لأنه يندر جداً أن تجد حاكماً يصرح بأنه يكذب حكم الله، كذلك أيضاً يندر من تجده يطعن في حكم الله، ويصفه مثلاً بالرجعية أو الهمجية أو الوحشية، فإن عامة القوم يتحاشون من ذلك ويهربون إلى حيل أخرى، لكن الخلاف غالباً يكون: على أي أساس نحكم على شخص بأنه رد حكم الله تبارك وتعالى؟ ذكرنا: أن الرد عكس القبول، ومعنى هذا: أن شخصاً يعلن أنه لا يقبل الحكم بشريعة الله تبارك وتعالى، وأنه لن ينقاد لهذه الشريعة في واقع الحياة، وهاتان هما صورتا الرد: أنه يعلن أنه لن يقبل الحكم بالشريعة، فهذه صورة مكفرة من صور الرد.
أيضاً: أنه لن يقبل الانقياد لهذه الشريعة في واقع الحياة، هذا في الواقع العملي له صور متعددة وأنواع متفاوتة، لكن كلها يجمع بينها هذا القدر.
أيضاً: قد يكون الرد متفاوتاً في درجة وضوحه؛ فبعض الناس يرد رداً واضحاً وجلياً، ومنه أنواع دقيقة ملتبسة قد تخفى على عموم الناس وما بينهما درجات متفاوتة، ومنها ما يكون أقرب إلى النوع الأول وواضح جلي، ومنها ما يكون أقرب إلى النوع الثاني.
فمثلاً: لو أن رجلاً أعلن أن الشريعة الإسلامية غير مناسبة للتطبيق، أي: أنها لا تناسب هذا العصر، أو انتقدها، أو ندد ببعض الأحكام الشرعية، فلا خلاف بين اثنين أن هذه من أقبح صور الرد وأصرحها، وكل المسلمين يتفقون على كفر صاحبها، ولا يختلفون في ذلك طرفة عين.
فإن كان ثمة خلاف فالخلاف لن يتعلق بالأصول، وسوف يتعلق بالفروع والإجراءات كمدى اعتبار عارض الجهل بالنسبة لهؤلاء أو عدم اعتباره، لكن لا يختلفون أن هذا الفعل كفر أكبر، لكن هل هناك من عذر أو تأويل أو غير ذلك من العوارض التي أشرنا إليها من قبل؟ هذا هو محل الخلاف؛ لأن صور الرفض ليست بنفس الدرجة من الوضوح والصراحة، لذلك ينشأ الالتباس والنزاع بين الناس في هذه القضية.
أيضاً: بالنسبة لمسألة تحكيم القوانين الوضعية، وإظهار أحكام عامة ملزمة لكافة الناس تتقيد بها الأجيال الحاضرة والمستقبلة، وهذه الأحكام تكون معارضة لحكم الله عز وجل، معطلة لحدوده، محلة لحرمته، وتقديم الحكم بها والتحاكم إليها على الحكم والتحاكم إلى الكتاب والسنة، بل والحلف والقسم على الإخلاص لها في الظاهر والباطن، هذه الصورة لا شك أنها صورة جلية من صور الرد والرفض لما أنزل الله تبارك وتعالى.
أيضاً: بعض الناس قد يوردون هنا شبهة على هذا الوضع، فيقولون: إن هؤلاء ورثوا هذه الأحكام ممن قبلهم ولم يستأنفوها هم أو لم يفعلوها، كما أنهم أيضاً لم يعلنوا إلغاءها من ناحية، ولم يعلنوا رفضهم الكامل للشريعة من ناحية أخرى، فتجتمع فيهم على ما يظهر أمور متعارضة، فهم باستمساكهم بالقوانين الوضعية وتحكيمها في الأمة، وإلزام الأمة بها، وعقوبة الخارج على هذه القوانين قد تحقق فيهم ما تحقق لدى من استأنفوا إصدار هذه القوانين من رد ما أنزل الله تبارك وتعالى، وهذا الرد أحد المناطين المكفرين في القضية.
أيضاً: هم حينما يعلنون الإيمان بالشريعة من جانب آخر، وأنهم يسعون إلى تطبيقها، ويشيدون بذلك في مختلف المناسبات، ويعتذرون عن التباطؤ في ذلك؛ لأنهم يريدون تهيئة الظروف وتحقيق الملاءمة السياسية وغير ذلك مما ينتحلونه أو ينتحل لهم من المعاذير عند من يحسن الظن بهم؛ تنتفي حينئذ دلالة الرد السابقة، ولا يحكمون عليهم بأنهم ردوا حكم الله، وإنما يلتمسون ويقبلون مثل هذه المعاذير.
فالناس ينقسمون في هؤلاء إلى أقسام عدة: فمنهم من يقضي باعتبارهم كفاراً مارقين؛ لأن الحال الظاهر يكذب ما يدعونه من العمل على التغيير، وأن هذا خداع للأمة لا غير، فهؤلاء إذا تحقق كذبهم في ادعاء التغيير، حينئذٍ يثبت في حقهم أنهم ردوا الأحكام الشرعية، وهذا كما ذكرنا من المناطات المكفرة.
لكن من الناس من صدق هذه المعاذير، وقضى باعتبارهم من أئمة الجور؛ لأنهم يعلنون الإسلام من ناحية ولا يتحقق في حالهم، ولم يثبت أنهم ردوا بالفعل الأحكام الشرعية من ناحية أخرى بناءً على ما يدعونه من السعي في التغيير وإعلان الإيمان بالشريعة، بل منهم من يغلو في إحسان الظن بالتصريحات التي يصدرونها فيعذرهم في تعويق الأحكام الشرعية بما يدعونه من المعاذير، فلا يشهد عليهم لا بكفر ولا بجور ولا بظلم، بل يعطيهم من الولاء ما يعطى للخلفاء الراشدين وأئمة العدل المهديين.
من الناس من يقضي باعتبارهم منافقين؛ لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرون خلاف ما يعلنون.
هذا التباين في حكم الناس في هذه القضية يجد أن الأساس في الخلاف ليس هو في وصف الكفر بأنه كفر أو المعصية بأنها معصية، إنما الخلاف في تحقيق هذا الواقع، ومدى دقة كل طرف في رؤية الأحداث وتحليلها بهذه الدقة.
ففي الحقيقة هذا ليس خلافاً حول بعض أصول الدين حتى يكفر من يخالف في هذه المسائل التي ذكرناها، فالخلاف ليس راجعاً إلى قضية من أصول الدين؛ لأن كلاً منهم يعتقد أن من رد حكم الله، ومن كذب بحكم الله فهو كافر، فهذا موضع اتفاق بين جميع المسلمين ا