اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينها وبين تلك الأحاديث التي ورد فيها الوعيد، يعني: أن هناك مجموعة من النصوص فيها بيان أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة، ولا إله إلا الله سبب للنجاة من النار، بدليل الأحاديث التي ذكرناها والتي فيها المزيد من الشروط كما جمعناها في هذه الشروط السبعة؛ لكن هناك نصوص أخرى في أحاديث الوعيد: من فعل كذا دخل النار، لعن الله من فعل كذا، من فعل كذا استحق عقوبة كذا، ما العلاقة بين هذه النصوص وتلك التي ظاهرها التعاطف؟ يمكن الجمع بين هذه النصوص، بأنها جنان كثيرة، فمثلاً قول النبي عليه الصلاة والسلام:(لا يلج حاضرة القدس مدمن خمر) و (حاضرة القدس): مكان معين في الجنة، من شرب الخمر في الدنيا ومات على التوحيد فمآله إلى الجنة سواء عذاب أم لم يعذب فإذا دخل الجنة فإنه لا يدخل مرتبة معينة من الجنة، وهي محرمة عليه؛ بسبب شربه الخمر، وكذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام:(لا يدخل الجنة قتات)، أي: نمام.
فإنه يدل على أنه لا يدخل مكاناً معيناً من الجنة، لكن لا نسلك سلوك الوعيدية الخوارج المبتدعين حينما يقولون: هذا دليل على كفره، لماذا أهل السنة هم الوسط والعدول؟ لأنهم يأخذون جميع أطراف النصوص ويجمعون بينها، فلا يفرطون ولا يفرطون، لا يغلون ولا يجفون، فهذه من الأمثلة التي فيها جمع بين النصوص مثل قوله هنا:(لا يدخل الجنة قتات)، وكذا حديث مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال:(إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر: فكان يسعى بالنميمة بين الناس)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فوضع الجريدتين الرطبتين على القبرين، وقال:(اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، ودخولهما تحت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنهما مسلمان، لو كانا مشركين لما جاز أن يترحم عليهما، أو أن يتشفع لهما، ويدعو لهما، فهذا يدل على أنهما وإن ماتا على الذنب، لكن ماتا على أصل التوحيد، وهذا يدل على أنهما موحدان يدخلان الجنة، لكن قوله عليه الصلاة والسلام مثلاً:(لا يدخل الجنة نمام)، يفيد أنه لا يدخل مع أول الداخلين، بل يتأخر، إما في العذاب في النار أو لغير ذلك في الحساب، وقوله:(لا يدخل الجنة)، يريد به منزلة معينة من الجنة لا يدخلها كما في حديث مدمن الخمر، ويمكن الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن أهل الجنة أيضاً متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل، فيتفاوتون في الأسبقية في دخول الجنة، ويتفاوتون بعد دخولها أيضاً في المنازل، كما قال عز وجل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) [آل عمران:١٦٣]، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي أعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، وهذا مفهوم للعارف بلغة العرب.
كذلك لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل هاتين الشهادتين على النار، وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمماً، لإمكان الجمع: بأن من مات على شيء من الكبائر أو الذنوب ولم يتب منها، ولو عذبه بدخول النار فإنه سيدخل الجنة؛ لأن من الموحدين من يدخل النار بلا شك، وهناك من تكون له الشفاعة إما برحمة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، وإما بشفاعة الشافعين، ثم يغمسون في نهر الحياة ويدخلون الجنة؛ حينئذ يحرمون على النار فلا تمسهم بعد ذلك، فيكون هذا معنى:(من قال: لا إله إلا الله، حرم الله جسده على النار)، فإذا دخلها وقد ارتكب ذنباً يستحق به دخول النار، فإنه يدخل لكنه لا يخلد فيها.
أو يكون المراد: أنهم يحرمون مطلقاً على النار التي أعدت للكافرين؛ لأن هناك طبقة -والعياذ بالله- من النار لا يخرج منها من دخل فيها، فهم يحرمون على النار الخاصة بالكافرين التي من دخلها لا يخرج منها أبداً، لا يموت فيها ولا يحيا، فهي ما عدا الطبقة العليا من النار، فالطبقة العليا من النار يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله سبحانه وتعالى عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.