وهذا القول قال به المعتزلة وجماعة من الحنفية الماتريدية، قالوا بأنهم مكلفون وإن لم يرسل إليهم رسول، وعليهم أن يستدلوا بعقولهم، فما استحسنه العقل فهو حسن، وما استقبحه العقل فهو قبيح، وإن الله سبحانه وتعالى يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسولاً لقيام الحجة عليه بالعقل، وهذا يدل على أن هناك ثواباً وعقاباً قبل بلوغ الدعوة وبعثة الرسل، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:١٨]، ووجه الدلالة في نظرهم أن من يموت كافراً فهو في النار، سواء أنذر أم لم ينذر، وأهل الفترة في النار؛ لأنهم ماتوا على الشرك، فقد كان لهم عقول، وكان في الإمكان أن تهديهم عقولهم إلى التوحيد.
ومن الأدلة التي استدلوا بها ما رواه مسلم من الأحاديث التي تدل على أن أهل الفترة لا يعذرون وإن لم يأتهم نذير، فمن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، فكون الله عز وجل لم يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه يدل على أنها في النار، وهي من أهل الفترة، فدل على أن من مات من أهل الفترة على الشرك فهو في النار.
وكذلك استدلوا بحديث أنس رضي الله عنه:(أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار.
فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)، ووجه الدلالة في ذلك: أن الكافر في النار، وأهل الفترة كفار، فهم في النار.
ثم استدلوا بالعقل، ومعلوم تقديس المعتزلة للعقل، واحتجوا بما أخبر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في قوله عز وجل:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:٧٤]، وكذلك استدلاله عليه السلام بالنجوم ومعرفة الله بها، كما قال الله تعالى عنه:{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:٧٨]، والمعروف أن إبراهيم عليه السلام في هذه الآيات كان مناظراً ولم يكن ناظراً، فقد كان يتبع أسلوباً معيناً في الجدل والحوار، ولم يكن باحثاً عن الحق بالفعل؛ لأنه كان قد وصل إليه؛ لقول تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:٧٥] والأنبياء معصومون من الذنوب قبل البعثة أو بعدها، فكيف بعصمتهم من الشرك؟! فهذا لا جدال فيه، فإبراهيم عليه السلام لم يرتب في الله تعالى لحظة واحدة من الزمن، هو معصوم من ذلك؛ لأنه نبي من أنبياء الله المعصومين، فإبراهيم كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وإنما كان يسلك سبيلاً معيناً لإقناعهم ومحاجتهم، وكان يريد أن يبصرهم بما هم عليه من عبادة الكواكب والأصنام.
واحتجوا كذلك بمحاجة الرسل لأقوامهم، بما يرشدهم العقل إليه، كما قال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[إبراهيم:١٠]، وقوله تبارك وتعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:١٠]، فأخذوا من ذلك أن العقل كان يمكنه أن يكون وسيلة لإيصالهم إلى الحق، لكنهم عبدوا الأوثان، ولم ينتفعوا بعقولهم.