وكذلك النُّحاة, مثل سيبويه الذي ليس في العالَم مثلُ كتابه (١)، وفيه حكمةُ لسان العرب، لم يتكلَّف فيه حدَّ الاسم والفاعل ونحو ذلك، كما فعل غيرُه. ولما تكلَّف النحاةُ حدَّ الاسم ذكروا حدودًا كثيرة كلُّها مطعونٌ فيها عندهم. وكذلك ما تكلَّف متأخِّروهم من حدِّ الفاعل والمبتدأ والخبر ونحو ذلك، لم يدخل فيه عندهم من هو إمامٌ في الصِّناعة ولا حاذقٌ فيها.
وكذلك الحدودُ التي يتكلَّفها بعض الفقهاء للطَّهارة والنجاسة وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم، وكذلك الحدودُ التي يتكلَّفها الناظرون في أصول الفقه لمثل الخبر والقياس والعِلم وغير ذلك= لم يدخل فيها إلا من ليس بإمامٍ في الفن، وإلى الساعة لم يَسْلَم لهم حدٌّ، وكذلك حدودُ أهل الكلام.
فإذا كان حذَّاقُ بني آدم في كلِّ فنٍّ من العلم أحكَمُوه بدون هذه الحدود المتكلَّفة بَطَل توقُّفُ المعرفة عليها.
وأما علومُ بني آدم الذين لا يصنِّفون الكتب، فهي مما لا يحصيه إلا الله، ولهم من البصائر والمكاشَفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه
(١). وقال عنه في «النبوات» (١٧٢): إنه «مما لا يقدر على مثله عامةُ الخلق». وقال في «بيان تلبيس الجهمية» (٨/ ٣٣٣): «كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك». وقال: «كتاب سيبويه في العربية لم يصنَّف بعده مثله» , ويسميه: «حكيم لسان العرب». «مجموع الفتاوى» (١١/ ٣٧٠, ١٢/ ٤٦٠). فهذا هو رأي ابن تيمية فيه وإجلاله له وتنويهه بقدره, أما ما وقع بينه وبين أبي حيان من الملاحاة في القصة المشهورة فمما يقع مثله في مواطن الغضب والانتصار للنفس.