للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بذلك، فهي أجلُّ وأعظمُ من أن يُظَنَّ أن لأهلها التفاتًا إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمَّة ــ التي هي خيرُ أمَّةٍ أخرِجت للناس, وأفضلُها القرون الثلاثة ــ من كان يلتفتُ إلى المنطق أو يعرِّجُ عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يُدْرِكُ أحدٌ شأوَها، كانوا أعمقَ الناس علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، وأبرَّها قلوبًا, ولا يوجدُ لغيرهم كلامٌ فيما تكلَّموا فيه إلا وجدتَ بين الكلامين من الفَرْق أعظمَ مما بين القَدَم والفَرْق (١).

بل الذي وجدناه بالاستقراء (٢) أن الخائضين في العلوم من أهل هذه الصِّناعة أكثرُ الناس شكًّا واضطرابًا، وأقلُّهم علمًا وتحقيقًا، وأبعدُهم عن تحقيق علمٍ موزون، وإن كان فيهم من قد يحقِّقُ شيئًا من العلم فذلك لصحَّة المادة والأدلة التي ينظرُ فيها، وصحَّة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق.

بل إدخالُ صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطوِّلُ العبارة, ويبعِّدُ الإشارة، ويجعلُ القريبَ من العلم بعيدًا، واليسيرَ منه عسيرًا, ولهذا تجدُ من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك لم يُفِد إلا كثرةَ الكلام والتشقيق، مع قلَّة العلم والتحقيق, فعُلِم أنه مِن أعظم حَشْو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام.

نعم لا يُنْكَر أن في المنطق ما قد يستفيدُ ببعضه من كان في كفرٍ وضلالٍ


(١) فرق الرأس. وهو جناسٌ تام. والعبارة ذائعة, رأيتها عند سبط ابن الجوزي في «إيثار الإنصاف» (٢٧٥) , ثم في كلام النويري والذهبي والصفدي وغيرهم.
(٢) الأصل: «بالاستقراء أن من المعلوم». ولعلها مقحمة أو محالة عن موضعها سهوًا, أو أن في السياق تحريفًا أو سقطًا, والكلام مستقيمٌ بدونها.

<<  <  ج: ص:  >  >>