للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النفوس ويَبْدَهُها بلا قياس، وجبَ الجزمُ بأن العلوم الكُلِّية العقلية قد تستغني عن القياس، وهذا مما اعترفوا هم به وجميع بني آدم؛ أن من التصوُّر والتصديق ما هو بديهيٌّ لا يحتاج إلى كسبٍ بالحدِّ أو القياس، وإلا لزم الدورُ أو التسلسل.

وإذا كان كذلك، فنقول: إذا جاز هذا في علمٍ كُلِّيٍّ جاز في آخر؛ إذ ليس بين ما يمكن أن يُعْلَم ابتداءً من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يُعْلَم فصلٌ مطَّرد، بل هذا يختلفُ باختلاف قوة العقل وصفائه، وكثرة إدراك الجزئيات التي تُعْلَمُ بواسطتها الأمور الكُلِّية، فما مِن علمٍ من الكليات إلا وعلمُه يمكنُ بدون القياس المنطقي، فلا يجوزُ الحكم بتوقُّف شيءٍ من العلوم الكُلِّية عليه. وهذا يتبين

بالوجه الرابع, وهو أن نقول: هَبْ أن صورةَ القياس المنطقي ومادتَه تفيدُ علومًا كُلِّية، لكن من أين يُعْلَمُ أن العلمَ الكلي لا يُنال حتى يقول هؤلاء المتكلِّفون القَافُون ما ليس لهم به علمٌ هم ومن قلَّدهم من أهل الملل وعلمائهم: إن ما ليس ببديهيٍّ من التصوُّرات والتصديقات لا يُعْلَمُ إلا بالحدِّ والقياس؟! وعدمُ العلم ليس علمًا بالعدم.

فالقائل لذلك لم يمتحِن أحوالَ نفسه، ولو امتحن أحوالَ نفسه لوجد له علومًا كُلِّيةً بدون القياس المنطقي، وتصوُّراتٍ كثيرةً بدون الحدِّ.

وإن لم يعلم ذلك (١) من نفسه أو بني جنسِه، فمن أين له أن جميع بني آدم ــ مع تفاوت فِطَرهم وعلومهم ومواهب الحقِّ لهم ــ هم بمنزلته، وأن الله


(١). الأصل: «وإن علم ذلك». وهو غير مستقيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>