للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهوى, فالجازمُ بغير علمٍ يجدُ من نفسه أنه غيرُ عالمٍ بما جَزَم به، والجازمُ بعلمٍ يجدُ من نفسه أنه عالم؛ إذ كونُ الإنسان عالمًا وغيرَ عالمٍ مثلُ كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامعٍ ومبصر، فهو يعلمُ من نفسه ذلك مثلَ ما يعلمُ من نفسه كونَه محبًّا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعَّمًا ومعذَّبًا وغير ذلك.

ومن شكَّ في كونه يَعْلَمُ مع كونه يَعْلَمُ فهو بمنزلة من جزَم بأنه عَلِمَ وهو لا يَعْلَم، وذلك نظيرُ من شكَّ في كونه سَمِع ورأى أو جزَم بأنه سَمِع ورأى ما لم يَسْمَعْه ويَرَه.

والغلطُ أو الكذبُ يَعْرِض للإنسان في كلِّ واحدٍ من طرفي النفي والإثبات, لكن هذا الغلطَ أو الكذبَ العارض لا يمنعُ أن يكون الإنسانُ جازمًا بما لا يشكُّ فيه من ذلك، كما يجزمُ بما يجدُه من الطُّعوم والأراييح (١) وإن كان قد يَعْرِض له من الانحراف ما يجدُ به الحُلْوَ مرًّا. فالأسبابُ العارضةُ لغلط الحسِّ الباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس، والأصلُ هو الصحَّة في الإدراك وفي الحركة, فإن الله خلق عبادَه على الفطرة, وهذه الأمور يُعْلَمُ الغلطُ فيها بأسبابها الخاصَّة, كالمِرَّة الصَّفراء العارضة للطَّعم، وكالحَوَل في العين, ونحو ذلك.

وإلا فمن حاسبَ نفسَه على ما يَجْزِمُ به وجد أكثرَ الناس الذين يجزمون بما لا يُجْزَمُ به إنما هو لنوعٍ من الهوى، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا


(١) جمع الريح: أرواح, وجمع الجمع: أراويح, وأراييح شاذة. «اللسان» (روح). وتقع في كلام الجاحظ وغيره من البلغاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>