وظهر بذلك تحكم التمدن العربي المتسع ونشأ عن ذلك العمران الزاهر فكان بالأندلس ست تخوت وثمانون مدينة كبيرة وثلاثمائة مدينة أقل منها وما لا يحصى من الضياع والقرى وفي قرطبة وحدها مائتا ألف بيت وستمائة مسجد وخمسون مستشفى للمرضى وثمانون مدرسة كبرى عامة وتسعمائة حكام وعدد ساكنيها مليون وليقس ما لم يقل وجامعها المشهور زخرفة وضخامة الباقي إلى الآن يضاهي في الفخامة الجامع الأموي بدمشق انتهى باختصار كثير مع تقديم وتأخير من خلاصة تاريخ العرب، وقد أتى على أخبار الأندلس الشهاب المقرَّى في نفح الطيب وأزهار الرياض وأشبع الكلام عليها بما فيه تذكرة وعبرة لذوي الألباب.
واعلم أن الأندلس اشتمل على فحول العلماء المبرزين في كثير من الفنون ترجمنا الكثير منهم في المقصد واشتمل على كثير من العجائب والمعادن وغير ذلك. في نفح الطيب: خص الله بلاد الأندلس من الريع وغدق السقيا ولذاذة الأقوات وفراهة الحيوان ودرور الفواكه وكثرة المياه وتبحر العمران وجودة اللباس وشرف الآنية وكثرة السلاح وصحة الهواء وابيضاض ألوان الأسنان ونبل الأفهام وفنون الصنائع وشهامة الطباع ونفوذ الإدراك وإحكم التمدن بما حرمه الكثير من الأقطار مما سواها. وقال أيضاً: إن الأندلس بلد كريم البقعة طيب التربة خصب الحنان منبجس الأنهار الغزار والعيون العذاب قليل الهوام وذوات السموم معتدل الهواء والجو والنسيم ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال متوسط الحال تتصل فواكهه أكثر الأزمنة وتدوم ملاحقة غير مفقودة. وقال أيضاً: في الأندلس من أنواع المعادن ما لا يحصى وفيه المدن الحصينة والمعاقل المنيعة والقلاع الحريزة والمصانع الجليلة وطول الأندلس ثلاثون يوماً وعرضه سبعة أيام ويشقها أربعون نهراً كباراً وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار وأزيد من ثلاثمائة من المتوسط وفيها من الحصون والقرى ما لا يحصى، قيل إن عدد القرى النبي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألفاً وكانت دور قرطبة أربعة عشر ميلاً وعرضها ميلان وكانت قرطبة قبة الإِسلام وبها استقر سرير الخلافة الأموية وهي معدن العلماء وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد ومسجدها ليس له نظير في الدنيا طوله ثلاثمائة وثلاثون ذراعاً وعرضه مائتان وخمسون ذراعاً وسواريه ألف وأربعمائة وهو مزخرف بالرخام والمرمر وماء الذهب واللازوردي وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منها منبر وفقيه مقلص تكون الفتيا في الأحكام إليه، وكانوا لا يكون فيهم مقلص إلا من حفظ الموطأ وقيل إلا من حفظ عشرة آلاف حديث وحفظ المدونة، وكان هؤلاء