بالسباحة والابتراد، أو إمتاع النفس بهذا المشهد الكلي. ولكن الغرض هو الاستمتاع بالشرب على وجه الخصوص لأنه مذوق، والذائقة أخص الحواس وأشدها، ولذلك كانت العناية بها منه سبحانه. أما بقية الصور والألوان فمراده على وجه العموم عن طريق التضمين.
وهكذا يختزن الفعل مع حرفه من المعاني والصور في سياق التضمين ما يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له وإلطاف النظر فيه مما نفتقده في التناوب والتعاور.
وهذا من أسرار هذه اللغة الشريفة العظيمة الشأن، فالفعل يحمل معنى في نفسه، ومعنى مع الحرف الذي عُدي به، ويومئ به إليه، ومعنى في تركيبه في جملته يوحي بالمنطوق ما ليس منطوقا فإذا الفعل مولود جديد بشخصية جديدة، قد لا تحمل ملامح أرومتها، وأزيدك استبصاراً في تهافت من يرى في التعاور مخرجا أو مذهبا: عَدى ربنا العليم فعل (رزق) بالحرف (في)(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) ورزق يتعدى بـ (مِن) وقال القائلون بالتناوب والتعاور: (في) معناها (مِنْ) ولو سألت: لم عدل سبحانه من حرف إلى حرف؟ وليس بين الحرفين فرق في الإيقاع الموسيقي فكلاهما حركة وسكون. والجواب الشافي يرد على لسان الزمخشري وأخذه عنه أبو حيان في البحر والآلوسي في روح المعاني قال: أي اجعلوها مكانا لزرقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من أرباح أموالهم، لا من صلب المال، لئلا يأكلها الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل منها كما قال بعض المفسرين لكان الإنفاق من المال نفسه. ولعل سائل يسأل: لم عدل تعالى عن (اتجروا) إلى (ارزقوا)؟ أجيب: لو قال اتجروا لصرنا ملزمين بتشغيل أموالهم بالتجارة على وجه الخصوص، وإن لم نجد التاجر الصدوق والصفقة الرابحة.