وكما يتصف الحكم عند المناطقة بالصواب والخطأ، يكون الحكم عند الأصوليين بالإباحة والوجوب والتحريم. ورغم ما وصفنا المعنى الأصولي بالعقلية لا العرفية ولا الاجتماعية، إلا أنهم في دلالة الكلمة قدموا نوعاً سلبيا هامًّا اصطلحوا على تسميته: مفهوم المخالفة، ولهذا المفهوم قيمة كبيرة عن (القيم الخلافية) التي تتكون مثها الأنظمة اللغوية وقد أشار الفراء إليها.
اتفق علماء اللغات على أن العربية أنصع اللغات وأسنعها وآصلها وأكملها لغزارة موادها واطراد اشتقاقها وسرارة جوادّها حتى قال ابن القطاع: من ذمَّ شِعرهم فجر، ومن طعن على لغتهم كفر أ. هـ وإذا كانت قريش أفصح العرب فرسولنا صلوات اللَّه عليه من قريش في الذُؤابة. عن عمر بن الخطاب قال: يا رسول اللَّه مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كانت لغة إسماعيل قد دُرِست فجاءني بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها).
أمد اللَّه نبيه إذاً بجوامع الكلم واختار له من اللغات أعربها، ومن الألسنة أفصحها وأبينها، وقريش تفد إليها الحجيج من قبائل العرب تتحاكم إليها وهي مع فصاحتها وحسن لغتها ورقة لسانها، تتخير من كلام الوفود وأشعارها أصفاها وأبينها وأبلغها فاجتمع ما تخيروه إلى سلائقهم التي طُبعوا عليها فلا ترى في كلامهم عنعنة تميم ولا كشكشة ربيعة ولا كسكسة هوازن ولا تضجع قيس ولا عجرفية ضبَّة، أو تلتلة بهراء، فغرّد بفرائد لغتهم كل شاعر ما استطاب، وصدح بجواهر ألفاظهم كل أديب، فأتهم صِيتُها في البلاد وأنجد.