ومن خلال هذه الخطوط العريضة لهذا المشهد العظيم، نذهب إلى تضمين (تتنزل) معنى (تَحْبُر وتبتهج) وكلاهما يتعدى بـ (مِن) فالملائكة والروح تَحْبُر من لطائفَ لا يُحاط بها ولا يُدرك مداها، وتبتهج من كل أمر نزلت به من كتاب اللَّه على رسوله في هذه الليلة المباركة، من أوامرَ ونواهٍ وشرائعَ وأحكامٍ ومواعظَ وآداب في شؤون العباد صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، مُجملها ومُفصلها، أولها وأخرها، لأنه خير كله، وسلام كله، وسرور دائم كله. ولو جاء التعبير: تَخبُر الملائكة من كل أمر لضاع علينا أمر النزول، ولو جاء النزول متعديا بالباء لضاع علينا معنى الابتهاج والفرحة.
فحروف المعاني إنما تستمد ضياءها من نور المادة اللغوية المصاحبة لها - الفعل أو مشتقه - فتحتاج إلى مزيد من التأمل، وليست حروفا موحشة مظلمة تتعاور وتتناوب.
وكم كنت أعان الخاطر وأفانيه وأتودده على أن يكشف لي معنى (مِن) هذه، حتى تبرَّج النزول بثوب البهجة والسرور ليكشف عن بيان المُنزَّل المعجز، ورِكازِ نظْمه البديع.