للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: ٢٤] ما نصّه:

فإن قُلْت: كَيف يَصِحّ أن يَكْذِبوا حِين يَطَّلِعُون عَلى حَقَائق الأُمُور، على أنَّ الكَذِب والْجُحُود لا وَجْه لِمَنْفَعَتِه؟ قُلْت: الْمُمْتَحَن يَنْطِق بِمَا يَنْفَعُه وبِمَا لا يَنْفَعُه مِنْ غَير تَمْيِيز بَيْنَهُما حَيْرَة ودَهَشًا، ألَا تَرَاهُم يَقُولُون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون: ١٠٧]، وقَد أيْقَنُوا بالْخُلُود ولَم يَشُكُّوا فِيه: (وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف: ٧٧]، وقَد عَلِمُوا أنه لا يُقْضَى عَليهم؟

وأمَّا قَول مَنْ يَقول: مَعْنَاه: مَا كُنَّا مُشْرِكِين عِند أنْفُسِنَا، ومَا عَلِمْنا أنا عَلى خَطَأ في مُعْتَقَدِنا. وحَمَلَ قوله: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الأنعام: ٢٤] يَعْني في الدُّنيا، فَتَمَحُّل وتَعَسُّف وتَحْرِيف لأفْصَح الكَلام إلى مَا هُو عِيّ وإقْحَام؛ لأنَّ الْمَعْنَى الذي ذَهَبُوا إليه لَيس هَذا الكَلام بِمُتَرْجِم عَنه، ولا مُنْطَبِق عَليه، وهو نَابٍ (١) عَنه أشَدّ النّبْو ومَا أدْرِي مَا يَصْنَع مِنْ ذَلك تَفْسِيره بِقَوله تَعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [المجادلة: ١٨] بَعْد قَوله: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) [المجادلة: ١٤]، فَشَبَّ كَذِبهم في الآخِرَة بِكَذِبهم في الدُّنيا؟ (٢)

وقَال في تَفْسير قَوله تَعالى: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: ١٣٠]: فإن قُلت: مَا لَهُمْ مُقِرِّين في هَذه الآية جَاحِدِين في قَوله:


(١) قال في الفائق في غريب الحديث (٣/ ٤٠٣): وقد نبا يُنْبُو: إذا ارتفع.
(٢) الكشاف، مرجع سابق (ص ٣٢٣)، ورجّح ابن كثير (٦/ ٢٠) أن آية "المجادلة" هذه نزلت في المنافقين، وأن آية "الأنعام" نزلت في شأن الكفار، لأنها مكية، و"المجادلة" مدنية.
قال القاسمي (محاسن التأويل ٦/ ٣٤٠): والقول المذكور، والحمل الذي ناقش فيه، أصله لأبي علي الجبائي والقاضي، فإنهما ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي، فلتنظر ثمت، فإنا لا نسود وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل.
والزمخشري أثبت كذب الكفار في الآخرة، وسيأتي تصريحه بذلك.

<<  <   >  >>