للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأطَال الرَّازي النَّفَس في تَقْرِير ومُنَاقَشَة الأقْوَال في تَعْيِين الكَبَائر والتَّفْرِيق بَيْنَها وبَيْن الصَّغَائر، كَمَا أطَال في رَدّ قَوْل الْمُعْتَزِلَة في "القَوْل بالإحْبَاط".

واخْتَار الرَّازِي أنَّ الله لَم يُميِّز الكَبَائر عن الصَّغَائر، وعَزَاه إلى الأكْثَرِين، وعَلل ذلك: بأنه تَعَالى لَمَّا بَيَّن في هَذه الآيَة أنَّ الاجْتِنَاب عن الكَبَائر يُوجِب تَكْفِير الصَّغَائر، فإذا عَرَف العَبْد أنَّ الكَبَائر لَيْسَت إلَّا هَذه الأصْنَاف الْمَخْصُوصَة عَرَف أنه مَتَى احْتَرَز عَنها صَارَتْ صَغَائره مُكَفَّرة، فَكَان ذَلك إغْرَاءًا لَه بالإقْدَام على تِلك الصَّغَائر، والإغْرَاء بِالقَبِيح لا يَلِيق بِالْجُمْلَة، أمَّا إذا لم يُمَيِّز الله تعالى كُلّ الكَبَائر عن كُلّ الصَّغَائر ولم يُعْرَف في شَيء مِنْ الذُّنُوب أنه صَغِيرة ولا ذَنْب يُقْدِم عَليه إلَّا ويَجُوز كَونه كَبِيرَة فيَكُون ذَلك زَاجِرًا لَه عن الإقْدَام عَليه. قَالُوا: ونَظِير هَذا في الشَّرِيعَة: إخْفَاء الصَّلاة الوُسْطَى في الصَّلَوات (١)، ولَيْلَة القَدْر في لَيَالِي رَمَضَان (٢).

وسَاعَة الإجَابَة في سَاعَات الْجُمُعَة (٣)، ووَقْت الْمَوْت في جَمِيع الأوْقَات (٤).

والْحَاصِل أنَّ هَذه القَاعِدة تَقْتَضِي ألا يُبَيّن الله تعالى في شيء مِنْ الذُّنُوب أنه صَغِيرة، وأنْ لا يُبَيِّنْ أنَّ الكَبَائر لَيْسَت إلَّا كَذا وكَذا، فإنه لو بَيّن ذلك لَكَان مَا عَدَاهَا صَغِيرَة، فَحِينَئذٍ تَصِير الصَّغِيرة مَعْلُومَة، ولكن يَجُوز أن يُبَيَّن في بَعْض الذُّنُوب أنه كَبِيرَة (٥).


(١) ذكر ابن الملقن (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام ٢/ ٢٧١ - ٢٧٥) سبعة عشر قولًا في تعيين الصلاة الوسطى.
(٢) ينظر ذلك في تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (١٤/ ٤١٠ - ٤١٦).
(٣) ينظر لذلك: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يُصلي يَسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه. رواه البخاري (ح ٦٠٣٧)، ومسلم (ح ٨٥٢).
وحديث أبي موسى وفيه: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقْضَى الصلاة". رواه مسلم (ح ٨٥٣).
وفي حديث جابر: "فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر". رواه أبو داود (ح ١٠٤٨)، والنسائي (ح ١٣٨٩).
وقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة. رواه مالك (ح ٢٤١)، ومن طريقه أحمد (ح ٢٣٨٣٦)، وأبو داود (ح ١٠٤٦)، والترمذي (ح ٤٩١)، ورواه النسائي (ح ١٤٣٠)، وابن ماجه (ح ١١٣٩)، وساق ابن حجر في الفتح (٢/ ٤٨٤ - ٤٨٨) أكثر من أربعين قولًا في تعيين ساعة الجمعة، فلينظر ثم.
(٤) ينظر ما قرره ابن القيم في حكمة ذلك: مفتاح دار السعادة، مرجع سابق (٢/ ٢٤٧ - ٢٥٢).
(٥) التفسير الكبير، مرجع سابق (١٠/ ٦٠ - ٦٢) باختصار.

<<  <   >  >>