للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن قِيل: الصَّغَائر مُكَفَّرَة باجْتِنَاب الكَبَائر، فَمَا الذي تُكَفِّرُه الفَرَائض في مِثْل قَوله عليه الصلاة والسلام: الصَّلَوَات الْخَمْس، والْجُمُعَة إلى الْجُمُعَة، ورَمَضَان إلى رَمَضَان، مُكَفِّرَات مَا بَيْنَهُنّ إذا اجْتَنَبَ الكَبَائر (١)؟

فالْجَوَاب:

أنَّ الصَّغَائر كَثيرَة، وقَد تُكَفِّر الصَّلَوات الْخَمْس بَعْضَها، فإذا بَقِي مِنها شَيء كَفَّرَتْها الْجُمُعَة، فَرَمَضان، فَالْعُمْرَة، فإن لَم يَبْقَ مِنْها شَيء، أوْ كَانت مُكَفّرَة باجْتِنَاب الكَبَائر؛ كَانَتْ هَذه الأعْمَال لَه فَضْلًا وزِيَادَة أجْر.

كما أن "بَعْض السَّيئَات قَدْ لا يُعاقَب عَليها، وقد تَقَع مُكَفَّرَة بِاجْتِنَاب الكَبَائر ولكِن زَمَانها قَدْ خَسِرَه صَاحِبُها حَيث ذَهَبَتْ بَاطِلًا، فَيَحْصُل له بِذلك حَسْرَة في القِيَامَة وأسَف عَليه، وهو نَوْع عُقُوبَة" (٢).

قال ابن حجر: ودَلّ التَّقْيِيد بِعَدَم غِشْيَان الكَبَائر على أنَّ الذي يُكَفّر مِنْ الذُّنُوب هو الصَّغَائر، فَتُحْمَل الْمُطْلَقَات كَلّها عَلى هذا الْمُقَيّد، وذَلك أنَّ مَعْنَى قَوله: "مَا لَم تُغْشَ الكَبَائر" إي: فَإنّهَا إذا غُشِيَتْ لا تُكَفَّر، وليس الْمُرَاد أن تَكْفِير الصَّغَائر شَرْطه اجْتِنَاب الكَبَائر، إذ اجْتِنَاب الكَبَائر بِمُجَرَّدِه يُكَفِّرُها، كَمَا نَطَق بِه القُرْآن، ولا يَلْزَم مِنْ ذَلك أن لا يُكَفّرها إلَّا اجْتِنَاب الكَبَائر، وإذا لَم يَكُنْ للمَرْء صَغَائر تُكَفَّر رُجِي له أن يُكَفّر عنه بِمِقْدار ذَلك مِنْ الكَبَائر، وإلّا أُعْطِي مِنْ الثَّوَاب بِمِقْدَار ذَلك (٣).

واخْتلِف في تَكْفِيرِ الكَبَائر.

قال ابن رَجب: وأمَّا الكَبَائر فَلا بُدّ لَهَا مِنْ التَّوْبَة؛ لأنَّ الله أمَرَ العِبَاد بِالتَّوْبة، وجَعَل مَنْ لَم يَتُبْ ظَالِمًا، واتَّفَقَتِ الأُمَّة على أنَّ التَّوْبة فَرْض، والفَرَائض لا تُؤدَّى إلَّا


(١) رواه مسلم، وقد تقدم.
(٢) جامع العلوم والحكم، مرجع سابق (١/ ١٣٥).
(٣) فتح الباري، مرجع سابق (٢/ ٣٧٢، ٣٧٣).

<<  <   >  >>