للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ورَجَّح ابن جرير أنَّ عَمَى الكُفَّار في الآخِرَة إنَّمَا هو عَمَى عن الْحُجج والبَرَاهِين، حَيث يَقُول بَعد سِيَاق الأقْوَال في قَوله تَعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا): وَأَوْلى الأقْوَال في ذلك عندي بالصَّوَاب قَوْل مَنْ قَال: مَعْنَى ذلك: ومَن كان في هذه الدُّنيا أعْمَى عن حُجَج الله على أنه الْمُنْفَرِد بِخَلْقِها وتَدْبِيرها وتَصْريف مَا فِيها، فهو في أمْر الآخِرَة التي لَم يَرَها ولَم يُعَايِنها، وفِيمَا هو كَائن فِيها (أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يَقُول: وأضَلّ طَرِيقًا مِنه في أمْر الدُّنيا التي قد عَايَنها ورَآها.

وإنَّمَا قُلْنا ذلك أوْلَى تَأوِيلاتِه بِالصَّوَاب؛ لأنَّ الله تعالى ذِكْرُه لم يَخْصُص في قَوْلِه: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) عَمَى الكَافِر بِهِ عن بَعض حُجَجِه عليه فِيها دُونَ بَعْض، فَيُوَجَّه ذلك إلى عَمَاه عن نِعَمِه بِمَا أنْعَم به عَليه مِنْ تَكْرِيمه بَنِي آدَم، وحَمْلِه إيَّاهُم في البَرِّ والبَحْر، ومَا عَدَّد في الآيَة التي ذَكَر فِيها نِعَمَه عَليهم، بل عَمّ بِالْخَبَر عن عَمَاه في الدُّنيا فَهُمْ كَمَا عَمّ تَعالى ذِكْرُه (١).

وهذا مَا رَجَّحَه أيضًا في تَفْسِير قَولِه تَعَالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: ١٢٤]، فإنه قَال بَعْد سِيَاق الأقْوَال: والصَّوَاب مِنْ القَوْل في ذلك مَا قال الله تَعَالى ذِكْرُه، وهو أنه يُحْشَر أعْمَى عن الْحُجَّة ورُؤيَة الشَّيء، كَمَا أخْبَر جَلّ ثَنَاؤه، فَعَمّ ولَم يَخْصُص (٢).

"فَتَأوِيل الكَلام: قال رَبّ لِم حَشَرْتَنِي أعْمَى عن حُجَّتِي ورُؤيَة الأشْيَاء، وقد كُنْت في الدُّنيا ذَا بَصَر بِذلك كُلّه؟ (٣)

وقال في آيَة "السجدة": (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا) مَا كُنَّا نُكَذِّب بِه مِنْ عِقَابِك أهْل مَعَاصِيك، (وَسَمِعْنَا) مِنْك تَصْدِيق مَا كَانت رُسُلُك تَأمُرُنا بِه في الدُّنيا (٤).


(١) جامع البيان، مرجع سابق (١٥/ ١١، ١٢).
(٢) المرجع السابق (١٦/ ٢٠١).
(٣) المرجع السابق (١٦/ ٢٠٢).
(٤) المرجع السابق (١٨/ ٦٠٥).

<<  <   >  >>