قَالَ أَهْلُ الطَّرِيقِ: مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّفَ مِنْ الْعَمَلِ أَكْثَرَ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ مَعَ أَكْثَرِ مَا تَعْمَلُهُ فَإِنْ كَثُرَتْ أَسْبَابُ الدُّنْيَا عَلَيْهَا مَالَتْ إلَيْهَا وَإِنْ كَثُرَ شُغْلُهَا بِأَسْبَابِ الْآخِرَةِ مَالَتْ إلَيْهَا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّ مَنْ نَقَصَ فِي عَشَائِهِ عَنْ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ يُطِيلُ الْقِيَامَ أَوْ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ ضِدَّ مَا تُرِيدُهُ النَّفْسُ مِنْ الرَّاحَةِ عِنْدَ الشِّبَعِ، فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَوْ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَتَنْقَادُ النَّفْسُ إلَيْهَا أَكْثَرَ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضِيلَةُ الْجِهَادِ، وَلَا جِهَادَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «رَجَعْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ جِهَادَ النُّفُوسِ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ إذْ إنَّهُ عَمَلٌ بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى مُبَاشَرَتِهِمْ لِوُجُودِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّك قَدْ تَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ مَنْ لَهُ الْيَدُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَقَدْ جُبِلُوا عَلَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهَا عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ وَأَنِسَتْ النُّفُوسُ بِهَا مَعَ وُجُودِ الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَالْهَوَى الْمُرْدِي أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
مَعَ أَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ إنَّمَا هُوَ بِالتَّجْرِبَةِ وَعَنْهَا أُخِذَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَبِيبٌ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ أَوْ كَحَّالٌ وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَرِينَ لَدَيْهِ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ الْجَيِّدَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَمَا ذَاكَ إلَّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ فَمَنْ كَثُرَتْ تَجَارِبُهُ كَثُرَتْ مَعْرِفَتُهُ فِيهِ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْقَوَابِلِ وَالْعَجَائِزِ يَعْرِفْنَ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَعْرِفَةِ الْجَيِّدَةِ وَهَذَا رَاجِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ.
وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْجِعُونَ إلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَيَقُّنِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الطَّبِيبَ الْكَافِرَ يُبَاشِرُهُمْ وَلَيْسَ فِي عَقْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute