للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَالُك بِالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ الْمُتَوَجِّه إلَى رَبِّهِ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَمَلْذُوذَاتِهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَوْجَبُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إذَا سَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: لَا يَصِيرُ السَّمَاعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشْرَةِ شُرُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا، وَالْفَقِيرُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الرَّيْبِ، وَيَسُدَّ عَنْ نَفْسِهِ أَبْوَابَ الْمَفَاسِدِ كُلَّهَا فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَصَلَاحُهُ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ، وَفَسَادُهُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مُهْجَتَهُ، وَمُهْجَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالنُّهُوضِ إلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

[فَصْلٌ فِي تَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَمُخَالَطَتِهِمْ وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ]

(فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ حُرْمَةَ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا بِتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ إذْ إنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا، فَوُقُوفُهُ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ نَقِيضُ طَرِيقِهِ وَمَقْصِدِهِ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي خَلْوَتِهِ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُكْثِرْهُمْ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إذَا رَأَيْت الْأَمِيرَ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ فَاتَّهِمْ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ إلَّا لِنِسْبَةٍ حَصَلَتْ فِي الْفَقِيرِ مِنْ أَجْلِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمِيرُ لِحُصُولِ الْجِنْسِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالُوا، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ لَا يَشْعُرُ بِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ.

حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ لَهُ خَاطِرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتِفَاتٌ إلَيْهَا، وَإِذَا بِجُنْدِيٍّ يَدُقُّ الْبَابَ فَدَخَلَ إلَيْهِ، وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَرَجَعَ الشَّيْخُ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْت، وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْخَاطِرَ الَّذِي مَرَّ بِهِ فَتَابَ

<<  <  ج: ص:  >  >>