أَنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا إلَّا ذَمُّ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ يَذُمُّ الْغِنَاءَ، وَقَدْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهَا، وَتَأَدَّبَ بِهَا فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إنْشَادَ الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ إذَا لُحِّنَ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا» فَالْجَوَابُ أَنَّ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَذَهَبَ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ، وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُ فَيَجْهَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا فَعَرْضُك حَدِيثَك عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا يُرِيدُهُ.
[سَمَاع الغناء الَّذِي يشترك فِيهِ الْخَاصّ والعام]
(فَصْلٌ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ لَا نَسْمَعُ الْغِنَاءَ بِالطَّبْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَإِنَّمَا نَسْمَعُ بِحَقٍّ فَنَسْمَعُ بِاَللَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَلَا نَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ قُلْنَا: إنْ زَعَمْتَ أَنَّك فَارَقْتَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ، وَصِرْت مَطْبُوعًا عَلَى الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ كَذَبْت عَلَى طَبْعِك، وَكَذَبْت عَلَى اللَّهِ فِي تَرْكِيبِك وَمَا وَصَفَك بِهِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ فَارَقَ إلْفَهُ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ مُجَاهِدًا لِنَفْسِك، وَلَا مُخَالِفًا لِهَوَاك، وَلَا يَكُونَ لَك ثَوَابٌ عَلَى تَرْكِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَأَصْحَابُك تُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ لَا تَفْتُرُونَ، وَتَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُبِيحَ سَمَاعَ الْعُودِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute