[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ]
ِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ جِهَادٌ أَصْغَرُ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ النَّاسِ إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ إذْ أَنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا، وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى آخِرَتِهِ لِشُغْلِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى إصْلَاحِ نَفْسِهِ وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْغَيْرِ فَكُلُّ قَلْبٍ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي حَيِّزِ الْمَتْرُوكِ الْمَطْرُوحِ، وَكُلُّ قَلْبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى وَقَعَ لَهُ الْفَتْحُ، وَالتَّجَلِّي، وَالْمُخَاطَبَةُ فِي سِرِّهِ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ.
وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى مُجَاهَدَةٍ عَظِيمَةٍ لِكَيْ يَصْفُوَ قَلْبُهُ، وَيَتَجَهَّزَ لِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ الرَّبَّانِيَّةِ لَعَلَّهُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ السَّابِقِينَ، وَقَاعِدَةُ الْفَقِيرِ أَبَدًا لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ.
فَأَوَّلُ جِهَادِهِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ثُمَّ جِهَادُ نَفْسِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: إنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ جِهَادٌ بِالْقَلْبِ، وَجِهَادٌ بِاللِّسَانِ.
وَجِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادٌ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى بَاقِي أَقْسَامِ الْجِهَادِ. فَالْجِهَادُ بِالْقَلْبِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٤١] ، وَجِهَادُ اللِّسَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهِ مِنْ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: ٧٣] فَجَاهَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَجَاهَدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute