مِنْ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَعْظُمَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَتُهُ وَتَتَّسِعَ فِي الْجِنَانِ نِعَمُهُ. فَإِذَا كَانَتْ نَشْأَتُهُ صَالِحَةً كَانَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاقِعًا مُؤَثِّرًا ثَابِتًا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ النَّشْأَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ حَتَّى أَلِفَ الصِّبَا وَاللَّعِبَ وَالْفُحْشَ وَالْوَقَاحَةَ وَشَرِهَ الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالتَّزَيُّنَ وَالتَّفَاخُرَ نَبَا قَلْبُهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ نُبُوَّ الْحَائِطِ عَنْ التُّرَابِ الْيَابِسِ فَأَوَائِلُ الْأُمُورِ هِيَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى فَإِنَّ الصَّبِيَّ خُلِقَ جَوْهَرَةً قَابِلًا لِنَقْشِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يَمِيلَانِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»
[فَصْلٌ كَيْف يُحَاوِلُ الْمُكَلَّفُ التَّكَسُّب]
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ التَّكَسُّبِ وَكَيْفِيَّةِ مَا يُحَاوِلُهُ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّكَسُّبَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْسِ الْحُبِّ لَهَا لَا فِي نَفْسِ التَّكَسُّبِ فَكَمْ مِنْ مُتَكَسِّبٍ زَاهِدٍ وَكَمْ مِنْ تَارِكٍ رَاغِبٍ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَوْ تَكَسَّبَ الْإِنْسَانُ بِنِيَّةِ أَنْ يَكْفِي إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِضَرُورَاتِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكَانَ فِي أَجَلِّ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ. أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ وَسَتْرُ عَوْرَتِهِ وَتَجَمُّلُهُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ رَفْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute