تَابِعًا فَاسْتَقَامَتْ مِنْهُمْ السِّيرَةُ بِلُزُومِهِمْ مَحَجَّةَ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَطَمَعِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ، وَكَانُوا إذَا اُمْتُحِنُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ ظَهَرَ مِنْهُمْ قَوْلُ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ، وَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلْزَمُ، وَأَشَدُّ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ فِي مَوَاطِنِ الرِّضَا فَإِنْ عَارَضَهُمْ طَمَعُ دُنْيَا ظَهَرَ مِنْهُمْ التَّنَزُّهُ، وَالْوَرَعُ، وَالتَّقْوَى، وَالتَّأَنِّي، وَفُقِدَ مِنْهُمْ الْحِرْصُ، وَالرَّغْبَةُ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ كَالطِّبَاعِ لَمْ يَتَصَنَّعُوا فِيهِ، وَطِبَاعُنَا الْيَوْمَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ، وَلَهُ أَحْذَرَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَمَلًا فَلَا تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْخَوْفِ، وَاغْتَنِمْ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ الْخَوْفِ فَإِنَّ قَلِيلَ حُزْنِ الْآخِرَةِ الدَّائِمِ فِي الْقَلْبِ يَنْفِي كُلَّ سُرُورٍ سُرِرْت بِهِ، وَأَلِفْتَهُ مِنْ سُرُورِ الدُّنْيَا، وَقَلِيلُ سُرُورِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ يَنْفِي عَنْك جَمِيعَ حُزْنِ الْآخِرَةِ، وَالْحُزْنُ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ تَيَقُّظِهِ، وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتُهُ، وَسُرُورُ الدُّنْيَا لِغَيْرِ الْآخِرَةِ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ، وَغَفْلَةُ الْقَلْبِ مَوْتُهُ، وَالْحُزْنُ يُوقِظُهُ، وَيَسْتَنْبِطُ لَهُ الْيَقَظَةَ مِنْ خَالِصِ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَبِخَطِرَاتِ غَامِضِ الْفَهْمِ تَكُونُ خَطَرَاتُ الْيَقِينِ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ اسْتِدَامَةُ الْحُزْنِ فِيهِ
[فَصْلٌ فِي الزُّهْدِ وَالْخَلْوَةِ]
ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَبْلَغَ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا مِنْ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ أُنْسُ الْعَبْدِ بِالْوِحْدَةِ، وَمَوْضِعُ هِيَاجِ الْحُزْنِ السُّرُورُ، وَمَعْدِنُهُ، وَمِفْتَاحُهُ الْعَقْلُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَحْزُونًا مَسْرُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ تُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ، وَالْحُزْنُ لَا يُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحُزْنُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ الْأَعْمَالِ لَطِيفَ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَسْتَدِيمُونَ صَالِحَ الْأَعْمَالِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا تَوْطِينًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَاسْتِصْحَابَ نِيَّتِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute