لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُجَازِي عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى
[فَصْلٌ فِي الْخَلْوَةُ عَنْ النَّاسِ وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ]
(فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عِنْدَهُ وَآكَدُهَا الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ، وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ سَبَبٌ لِلْفَتْحِ غَالِبًا، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقْبَلَ مَا تُلْقِيهِ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَوْ الشَّيْطَانُ مِنْ مَحَبَّةِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ أَوْ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ أَوْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَتِهِمْ فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ غَالِبًا عَلَى حُبِّ الرَّاحَةِ، وَالْبَطَالَةِ، وَهِيَ لَا تَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مَعَ دَءُوبِ الْخَلْوَةِ، وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى أَنْ تَسْرِقَهُ أَوْ تَمِيلَ بِهِ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ إلَّا بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ غَالِبًا إذْ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ فِيمَا يُرِيدُهُ، وَيَخْتَارُهُ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ أَوْ عَكْسُهُ، وَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالتَّحَلُّلُ، وَكَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا إلَّا مِنْ نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ.
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَخْلُو لِأَسْلَمَ مِنْ ضَرَرِي لِلنَّاسِ فَصِرْت أَخْلُو لِأَغْنَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَفْهَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَعْلَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَتَنَعَّمَ.
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي انْتَقَلَ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. فَأَوَّلُهَا: طَلَبُ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ إنَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَوُقُوعٌ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لِكَيْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَطْشِهِ، وَسَعْيِهِ، وَحَسَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِي خُلْطَتِهِ لَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسَلَامُهُ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ يَقُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ هَذَا الْمَقَامُ السَّنِيُّ تَرَقَّى بَعْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ يَنْتَهِبُهَا إذْ إنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَعَانَتْهُ عَلَى افْتِرَاسِ ذَلِكَ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْعَائِقِ، ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute