للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ تَرَقَّى إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ، وَفِي تَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَى أَوْلِيَائِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُمْ، وَعِلْمِهِ بِحَالِهِمْ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمُ الَّذِي مَنَّ بِذَلِكَ، وَسَهَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ مَا لِمَا عَدَا مَا ذُكِرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفَهْمِ إذْ إنَّهُ إذَا فَهِمَ عَلِمَ، وَهَذَا الْعِلْمُ عَامٌّ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ إذْ إنَّهُ لَا يُوجَدُ جَاهِلٌ بِأَحْكَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ عَالِمًا بِاَللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ بِخِلَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا نِهَايَةً عَلَى مَا قَدْ عَلِمَ فَلَمَّا أَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ السَّنِيَّةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهَا، وَهُوَ التَّنَعُّمُ فِي خَلْوَته، وَالتَّلَذُّذُ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا إذْ إنَّهُ عَبْدٌ قَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْقُرْبِ فَاتَّصَفَ بِالْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَلَا بَعْضَهَا إلَّا بِفَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَوْنُهُ خَلَعَ عَلَيْهِ دُونَهُمْ هَذَا فَضْلٌ عَمِيمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِشُكْرِ بَعْضِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ فَإِنَّك وَلِيُّهُ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْتَفَعَ بِنَفْسِهِ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ.

فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ جَاءَتْهُ الْأَلْطَافُ تَتْرَى إذْ إنَّهُ تَشَبَّهَ فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَشْرَبُونَ، وَبِذِكْرِ رَبِّهِمْ يَتَنَعَّمُونَ إذْ إنَّ الذِّكْرَ لَهُمْ كَالنَّفَسِ لَنَا، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ لَهُ كَالْغِذَاءِ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ جَمْعُ أَشْيَاءَ مِنْهَا شَهْوَةُ النَّفْسِ لِلْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَقَوَامِ الْبَدَنِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ تَمَّ لَهُ النَّعِيمُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً فِي الشَّهْرِ، وَبَعْضَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضَهُمْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضَهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ التَّنَعُّمِ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ انْقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُرِيدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا الْآدَابَ فِي الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ هُوَ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>