للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفِتْنَةِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقُومَ لِأَحَدٍ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ الْعِلْمِ قَائِمَةً، وَالْمُرُوءَةُ مَوْجُودَةً، وَبَرَكَةُ الِاتِّبَاعِ حَاصِلَةً، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ التَّغْيِيرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ كُلَّمَا أَحْدَثُوا حَدَثًا فِي الدِّينِ إنْ لَمْ نُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ حِفْظًا لِخَوَاطِرِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى مَا ذُكِرَ، وَهَذَا عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ مَضَتْ أَنَّ الْعَوَامَّ يُحْدِثُونَ وَالْعُلَمَاءَ يُنْكِرُونَ وَيَزْجُرُونَ فَصَارَ الْيَوْمَ الْحَالُ بِالْعَكْسِ الْعَوَامُّ يُحْدِثُونَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَتَّبِعُونَ وَبَعْضُهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ.

[فَصْلٌ فِي جلوس الْعَالم عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ]

(فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صُورَةَ التَّرَفُّعِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُدَرِّسِ التَّوَاضُعَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ فَرْوَةٍ، أَوْ بِسَاطٍ، أَوْ شَيْءٍ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَعَابَهُ وَقَالَ: أَتُتَّخَذُ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا وَرَخَّصَ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ، فَعَلَى هَذَا إنْ اضْطَرَّ الْمُدَرِّسُ، أَوْ غَيْرُهُ إلَى شَيْءٍ يَجْعَلُهُ تَحْتَهُ فَلْيَكُنْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَلْيُبَيِّنْ عُذْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْمَاضِينَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَابَهُ مَرَضٌ فَاِتَّخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَقَعَدَ خَارِجًا عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا تَقْعُدُ بِمَوْضِعِك بِالْأَمْسِ؛ لِأَنَّهُ أَكَنُّ لَك لِأَجْلِ مَرَضِك فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَوْقَ جُلَسَائِي وَكَانَ الْمَوْضِعُ عُلُوُّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَرْضُ أُصْبُعَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَقَالَ: لَوْ وَجَدْت سَبِيلًا أَنْ أَحْفِرَ حُفْرَةً تَحْتَ الْأَرْضِ فَأَقْعُدَ تَحْتَ جُلَسَائِي لَفَعَلْت

<<  <  ج: ص:  >  >>