وَبَهَاؤُهُ فَيَسْتَحْسِنُ مَا كَانَ قَبْلَ السَّمَاعِ يَسْتَقْبِحُهُ، وَيُبْدِي مِنْ أَسْرَارِهِ مَا كَانَ يَكْتُمُهُ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ بِهَاءِ السُّكُوتِ إلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَالْكَذِبِ، وَالِازْدِهَاءِ، وَالْفَرْقَعَةِ بِالْأَصَابِعِ، وَيُمِيلُ رَأْسَهُ، وَيَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ، وَيَدُقُّ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْخَمْرَةُ إذَا مَالَتْ بِشَارِبِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ الْحَاضِرَةَ فَسُقِيَتْ نَبِيذًا، فَلَمَّا خَامَرَهَا، وَصَحَّتْ قَالَتْ: أَوَ يَشْرَبُ هَذَا نِسَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَتْ: لَئِنْ صَدَقْتُمْ فَمَا يَعْرِفُ أَحَدُكُمْ مَنْ أَبُوهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ، وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي، وَثَنَائِي، وَأَعْلِمُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ: الْغِنَاءُ يُورِثُ الْعِنَادَ فِي قَوْمٍ، وَيُورِثُ التَّكْذِيبَ فِي قَوْمٍ، وَيُورِثُ الْفَسَادَ فِي قَوْمٍ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَفَاءَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَوَّلًا: حَقِيقَةَ الْغِنَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلَفْظِ الْغِنَاءِ مَعْنَيَيْنِ: لُغَوِيٌّ، وَعُرْفِيٌّ فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى اللُّغَوِيِّ فَقَوْلُهَا تُغَنِّيَانِ أَيْ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَنَحْنُ لَا نَذُمُّ إنْشَادَ الشِّعْرِ، وَلَا نُحَرِّمُهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشِّعْرُ غِنَاءً مَذْمُومًا إذَا لُحِّنَ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ، وَهِيَ الشَّهْوَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ لَحَّنَ، وَأَلَذَّ، وَأَطْرَبَ، فَالْمَمْنُوعُ، وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ اللَّذِيذُ الْمُطْرِبُ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَوْتَهُمَا كَانَ لَذِيذًا مُطْرِبًا، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ فَافْهَمْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ فِي آخِرِهِ، وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَنَفَتْ الْغِنَاءَ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute