لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَكْرَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَحُّوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَعَزُّوا الْعِلْمَ وَصَانُوهُ وَأَنْزَلُوهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَخَضَعَتْ لَهُمْ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَانْقَادَتْ لَهُمْ النَّاسُ وَكَانُوا لَهُمْ تَبَعًا وَعَزَّ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَذَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِمْ إذَا سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَبَذَلُوا عِلْمَهُمْ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَلُّوا وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ انْتَهَى. فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُكَابَرُ فِيهَا لِوُجُودِهَا حِسِّيَّةً مُشَاهَدَةً عِنْدَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا مَعَ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْخُيَلَاءِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ إلَى الشَّامِ وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ خِطَامُهُ لِيفٌ وَرَحْلُهُ وَزَادُهُ تَحْتَهُ وَمُرَقَّعَتُهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ الْأَجْنَادُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَأَنْ يَرْكَبَ بِرْذَوْنًا لِيُرْهِبَ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَنْ اسْتَوَى عَلَى الْبِرْذَوْنِ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَقِيلُوا عُمَرَ عَثْرَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَكُمْ فَرَجَعَ إلَى ثَوْبِهِ وَجَمَلِهِ وَقَالَ بِالْإِيمَانِ اعْتَزَزْنَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ الْبِلَادِ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَإِنَّمَا عَزَّ الْفَقِيهُ بِفَهْمِ الْمَسَائِلِ وَشَرْحِهَا وَمَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا وَتَعْظِيمِهَا وَتَرْفِيعِهَا وَتَعْلِيمِ مَا حَصَلَ مِنْ بَرَكَتِهَا وَخَيْرِهَا وَمَعْرِفَةِ الْبِدَعِ وَتَجَنُّبِهَا وَتَبْيِينِ شُؤْمِهَا وَمَقْتِهَا وَظَلَامِهَا وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَقْتِ لِفَاعِلِهَا أَوْ الْمُسْتَهِينِ لِلْقَلِيلِ مِنْهَا وَتَبْيِينِ مَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِ هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَمِنْ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَالْعَمَلِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ خِلْعَةَ الْعُلَمَاءِ الْخَشْيَةَ وَجَعَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ خِلْعَةَ الْعَالِمِ تَوْسِيعَ الثِّيَابِ وَالْأَكْمَامِ وَكِبَرِهَا وَحُسْنِهَا وَصِقَالَتِهَا
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ مَعَ الْعِمَامَةِ إلَى طَيْلَسَانٍ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ خَنَقَ نَفْسَهُ بِهِ وَيَتَفَقَّدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ مِنْ جَوَانِبِ خَدَّيْهِ أَنْ يَكُونَ مَالَ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَيَظْهَرُ وَجْهُهُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ تَحْتَجِبُ تَخَافُ أَنْ تُبَيِّنَ وَجْهَهَا لِلرِّجَالِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَغْرِزُ الْإِبَرَ فِي الطَّيْلَسَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute