للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ أَخَذَ عَلَيْهِ أُجْرَةَ نَسْخِهِ لِلْوَرَقَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا، فَإِنْ زَادَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَدِينَةِ فَاسَ جَالِسًا فِي الْعُدُولِ، وَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَكَتَبَ عِنْدَهُ حُجَّةً، وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا نَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ: مَا عِنْدِي غَيْرُ الدِّرْهَمِ فَقَالَ: لَا آخُذُ مَا لَا أَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ: فَكَمْ نُعْطِيكَ قَالَ: رُبْعُ دِرْهَمٍ قَالَ: مَا عِنْدِي رُبْعٌ قَالَ: هَاتِ أَرْبَعَةً مِنْ الْبِيضِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَنَزَلَ مِنْ دُكَّانِهِ لِأَدَائِهَا فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَانْتَهَرَهُ، وَزَجَرَهُ قَالَ: تُطْعِمُونَ النَّاسَ الْحَرَامَ، وَمَعَ هَذَا الْحَالِ مِنْ التَّحَرُّزِ وَالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِ تَبَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَانْعَزَلَ فِي الْبَيْتِ فَعَلَى مِنْوَالِهِ فَانْسِجْ إنْ أَرَدْت الْخَلَاصَ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْلِسَ فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ عَمِلَهُ، وَلَا يَطْلُبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنْ أَعْطَاهُ قَلِيلًا رَضِيَ بِهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَثِيرًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا جَائِزَةً شَرْعًا، وَقَدْ قَلَّ وُجُودُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ.

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّاهِدُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَمْنَعَ الْحُجَّةَ لِأَجْلِهِ، حَتَّى يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ النَّاسِ الْإِشْهَادَ عَلَى حُقُوقِهِ لِأَجْلِ الْإِجْحَافِ بِهِ، وَخَوْفًا مِنْ إعَانَتِهِمْ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا طُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ الْيَوْمَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا يَتَنَاسَاهَا، كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، حَتَّى إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا تَذَكَّرَهَا إذْ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ سِيَّمَا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِيهَا فِعْلًا قَبِيحًا، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الصَّدَاقَ عِنْدَهُ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ يَقُولُ: حَتَّى أُفَتِّشَ فَلَا يَزَالُ يُمَاطِلُ حَتَّى إذَا اُضْطُرَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، أَوْ طَلَاقِهِ إيَّاهَا، أَوْ بِطَلَبِ حَقِّهَا الْمَذْكُورِ فِي صَدَاقِهَا، فَيَطْلُبُ مِنْهَا إذْ ذَاكَ مَا يَخْتَارُهُ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْحَالِ، وَخَشِيَتْ مِنْهُ أَيْضًا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عِنْدَهَا أَنْ تَقْضِيَ مَا تَزِيدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>