للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَيْهِ فَهِيَ نَاظِرَةٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ بِلَا إدْرَاكٍ مِنْهُمْ لِصِفَةٍ، وَلَا صُورَةٍ، وَلَا حَدٍّ، وَلَا إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ كَيْفَ شَاءَ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَحَبَّهُمْ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ، وَسَائِرِ خَلْقِهِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا دَاوُد تَفَضَّلْ عَلَى عِبَادِي أَكْتُبْك مِنْ أَوْلِيَائِي، وَأَحِبَّائِي، وَأُبَاهِي بِك حَمَلَةَ عَرْشِي، وَأَرْفَعُ الْحُجُبَ بَيْنِي، وَبَيْنَك فَتَنْظُرُ إلَيَّ بِبَصَرِ قَلْبِك لَا أَحْجُبُك عَنْ ذَلِكَ مَا كُنْت مُسْتَمْسِكًا بِطَاعَتِي} ، وَذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْ لِأَهْلِ مَحَبَّتِي يَشْتَغِلُوا بِي فَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِي، وَالِانْقِطَاعُ إلَيَّ كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَ الْحُجُبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيَّ بِأَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِي قَدْ أَغْنَاهُمْ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ» فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَأَ اللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ، وَأَبْصَارَهُمْ، وَجَوَارِحَهُمْ مِنْ حُبِّهِ فَأَدَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ، وَالدُّخُولِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيبَ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ يَزِيدُ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَتَنْقَادُ جَوَارِحُهُ لِقَلْبِهِ، وَيَقْوَى عَزْمُهُ، وَيَقْهَرُ هَوَاهُ فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَامَ أَهْلِ الْقُوَّةِ إلَى أَنْ يَرْفَعَهُ اللَّهُ إلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا حَتَّى يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْأَخْذُ، وَالتَّرْكُ فَلَا يَأْسَفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ لِلْغِنَى الَّذِي وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ يَزْدَادُونَ لَهُ مَحَبَّةً، وَمَوَدَّةً، وَشُكْرًا لَهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْقَادَتْ أَهْوَاؤُهُمْ إلَى مَا قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا، وَكَفَى فَهِيَ لَا تَطَّلِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَاظِرِينَ إلَى رَبِّهِمْ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا لَا إلَى الْأَسْبَابِ نَظَرُهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي إقَامَةِ الْأَسْبَابِ الْخَالِصَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنْ لَبِسُوا خَشِنًا أَوْ لَيِّنًا أَوْ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا أَوْ أَكَلُوا طَيِّبًا أَوْ كَرِيهًا أَوْ حُلْوًا أَوْ مُرًّا أَوْ حَامِضًا أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ، وَتَعْظِيمِهِ.

وَذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَامِرَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْخَالِقِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ ثُبُوتٌ إلَّا بِالْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْسَخَ أَوْ يَثْبُتَ فَلَمْ يَقُمْ النَّاسُ مَقَامًا أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُعَلِّقُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>