أَبْدَى إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عُيُوبِهِ لَنَفَرَ مِنْهُ، وَذَبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْطَلَ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَصَارَ عَدُوًّا مُشَاحِنًا، وَأَقَلُّ مَا يَقُولُ لِلْعَارِفِ بِعُيُوبِهِ: حَسَدْتنِي فَلَمَّا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَأَنَّ زَمَانَهُ زَمَانُ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ اعْتَزَلَ بِنَفْسِهِ، وَنَفَرَ عَنْ الْعَامَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِهِ مُنْكَرًا، وَأَنَّ الشَّرَّ قَدْ أَحَاطَ بِالْخَيْرِ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِصِدْقِ الْإِرَادَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصِّدْقُ، وَمَا فِيهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْفُو إلَّا بِالصِّدْقِ اتَّقِي الْكَذِبَ، وَفُنُونَهُ كُلَّهَا، وَتَشَوَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسُهُ إلَى الْكَذِبِ، وَالرِّيَاءِ لِحَلَاوَةِ فُنُونِهِ عِنْدَهَا فَأَخَذَهَا بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَتْ مُنْقَادَةً فَلَمَّا صَارَتْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَرَأَى الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْهَا ازْدَادَ إلَى الصِّدْقِ تَشَوُّقًا، وَازْدَادَ لِلْكَذِبِ مَقْتًا.
وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفِرُ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ مِنْ قَلْبِهِ لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ، وَفُنُونِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَاِتِّخَاذُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمَحْمَدَةُ، وَالْعِزَّةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَاذِبَةِ فَمَنْ عَمِلَ بِالصِّدْقِ، وَاتَّقَى الْكَذِبَ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَدَوَاعِي الشَّرِّ كُلِّهِ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ فِي قَلْبِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ أَتَاهُ مِنْ وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِيَسْتَدْرِجَهُ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي بِدْعَةٍ فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْحَرَجِ، وَالشِّدَّةِ لِيُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ حَرَامًا فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ فَيُشَكِّكُهُ فِي وُضُوئِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ حَتَّى يَعْتَقِدَ بِهَوَاهُ أَمْرًا يَضِلُّ بِهِ عَنْ السَّبِيلِ، وَيَدْعُ الْعِلْمَ فَإِذَا قَدَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَلَّى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَالزُّهْدِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالصَّدَقَةِ، وَكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيُخَفِّفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَايَدَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَرَدَةِ فَيَقُولُ لَهُ إبْلِيسُ: دَعْهُ لَا تَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فَإِنَّمَا بِأَمْرِي يَعْمَلُ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِ، وَزُهْدِهِ، وَصَبْرِهِ، وَرِضَاهُ بِالذُّلِّ قَالَتْ الْعَامَّةُ، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ: هَذَا عَالِمٌ مُصِيبٌ صَابِرٌ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ، وَيَمُدُّ لَهُ إبْلِيسُ الصَّوْتَ فَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ.
وَعَلَامَتُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute