مَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حَذَرُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كُنْت تَسْأَلُ عَنْ الْعُجْبِ الَّذِي دَخَلَ أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ مِنْ الْعُبَّادِ فَسَأُخْبِرُك بِفِتْنَتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَلِيَّتِهِمْ فَتَوَقَّهَا، وَاحْذَرْهَا، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إلَى إبْلِيسَ الْخَبِيثِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَابِدِ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا مَكْشُوفَةٌ بِطَلَبِهِمْ الدُّنْيَا، وَالنَّاسُ قَدْ عَرَفُوهُمْ بِطَلَبِهَا، وَفِتْنَتِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَفْتُونٌ فِيهَا، وَأَمَّا فِتْنَةُ الْعَابِدِ فَهِيَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً، وَأَعْظَمُهَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهَا صَرْعًا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الدُّنْيَا، وَجَدُّوا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَكَابَدُوا الْمَفَاوِزَ، وَالْقِفَارَ، وَجَاهَدُوا صُعُودَ الْعِقَابِ، وَجَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالنَّفْسِ، وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِالدُّنْيَا، وَمَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَإِيثَارِهَا بِالصِّدْقِ مِنْهُمْ، وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ.
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ امْتَحَنَ هَذَا الْخَلْقَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالدُّنْيَا، وَفِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَفِي طَلَبِهِمْ الْآخِرَةَ، وَإِيثَارِهِمْ لَهَا بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤْنَةً لَا تُدْفَعُ إلَّا بِالصَّبْرِ، وَوَعَدَ إبْلِيسَ وَعْدًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ هُوَ، وَذُرِّيَّتَهُ صُدُورَ بَنِي آدَمَ يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ، وَذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ، وَلِمَنْ عَصَى، وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَأَعْدَائِهِ فَلَيْسَ لِلْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ أَنْ يَنْفِيَ الشَّيْطَانَ عَنْ قَرَارِهِ أَوْ يُزْعِجَهُ عَنْ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَسْكَنَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَمَكَّنَهُ مِنْهُ، وَهَذِهِ مِنْ الْمِحَنِ الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَيَقَّظَ بِقَلْبِهِ خَنَسَ الْخَبِيثَ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ، وَطَبَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَالتَّيَقُّظِ، وَأَيَّدَ اللَّهُ الْعَابِدَ بِمُكَايَدَتِهِ إبْلِيسَ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحْوَجُ إلَى صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَابِدِ الَّذِي قَدْ قَصَدَ خِلَافَهُ، وَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إبْلِيسُ إلَى ابْنِ آدَمَ مِنْ فُنُونِ الشَّهَوَاتِ فَحَذَفَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَخَلَّفَهُ خَلْفَهُ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْ الْعَقَبَةِ الَّتِي إنْ جَاوَزَهَا كَانَ مُنْحَدِرًا إلَى الْجَنَّةِ بِإِذْنِ اللَّه فَتَجَرَّدَ لَهُ إبْلِيسُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي إنْ سَلِمَ مِنْهَا نَجَا فَلَا يَسْلَمُ فِي مِثْلِ زَمَانِك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute