وَلَمْ تَكُنْ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ.
فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» فَالْمَعْنَى مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيِّ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْغِنَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ الْخَبَرِ فَقَالَ: يُجْهَرُ بِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: ٢] أَيْ سَمِعَتْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ تَلْحِينُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّحْبِيرُ وَالتَّحْزِينُ.
قَالَ: عِيسَى الْغِفَارِيُّ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فَقَالَ: بَيْعُ الْحُكْمِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالذِّمَمِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ، وَلَا بِأَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً» فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّحْزِينُ قَالَ شُعْبَةُ: نَهَانِي أَيُّوبُ أَنْ أَتَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَخَافَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ» ، وَقَدْ رَجَعَ، وَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ.
وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرَى أَحَدًا (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَغْنَى مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيرًا أَوْ صَغَّرَ عَظِيمًا» ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ يَقُومُ بِهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ دُونَ الصَّوْتِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا بِالْعِرَاقِ ... عَفِيفَ الْمَنَامِ طَوِيلَ التَّغَنِّي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute