للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَمَلُ السِّرِّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ الْأَهْلِ وَمَا شَابَهَهُمْ. فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ، أَوْ الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ.

وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى. فَالْمُرِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، بَلْ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَفَظَةُ وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا بِحَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ لِكَرَاهِيَةِ الْمَلِكَ لَهُ.

وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا، وَهِيَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ رَبِّهِ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ.

وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ. فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهِيَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَلَّى لِخَلْقِهِ وَظَهَرَ بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا يُقَالُ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَتَى؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>