للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلتَّحْرِيمِ وَرَافِعٌ لِاحْتِمَالِ التَّطَرُّقِ إلَيْهِ.

فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا نُصَّ عَلَيْهِ وَأُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ، فَقَدْ ارْتَفَعَ الِاحْتِمَالُ لَا شَكَّ فَتَعَاضَدَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى هَذَا النَّهْيِ فَلَا تَجِدُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةِ الْكُفْرَانِيَّةِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» فَهُوَ تَحْرِيمٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الدِّينِ كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي أَطْبَقَ أَرْبَابُ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَرَامَ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقِيمِينَ مَعَهُمْ وَالرَّاكِنِينَ إلَيْهِمْ بِجَوَازِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ وَاسْتَخَفَّ أَمْرَهَا فَهُوَ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ وَمُفَارِقٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَحْجُوجٌ بِمَا لَا مَدْفَعَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ وَمَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إلَى مُخَالَفَتِهِ وَخَرْقِهِ.

قَالَ زَعِيمُ الْفُقَهَاءِ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَوَّلِ كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ فَرْضُ الْهِجْرَةِ لَيْسَ سَاقِطًا بَلْ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ لَا يُقِيمَ بِهَا حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُشْرِكِينَ بَلْ يَهْجُرُهُ وَيَلْحَقُ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ» إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِ بِهَا الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ إنْ عَادَ إلَى دَارِ إيمَانٍ وَإِسْلَامٍ كَمَا حُرِّمَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّجُوعُ إلَى مَكَّةَ لِلَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ.

قَالَ: فَإِذَا وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَهْجُرَهُ وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَثْوِي بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيُقِيمُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ لِئَلَّا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ فَكَيْفَ يُبَاحُ لِأَحَدٍ الدُّخُولُ إلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ فِي تِجَارَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَسْكُنَ أَحَدٌ بِبَلَدٍ يُسَبُّ فِيهَا السَّلَفُ فَكَيْفَ بِبَلَدٍ يُكْفَرُ فِيهِ بِالرَّحْمَنِ وَتُعْبَدُ فِيهِ مِنْ دُونِهِ الْأَوْثَانُ لَا تَسْتَقِرُّ نَفْسُ أَحَدٍ عَلَى هَذَا إلَّا مُسْلِمٌ مَرِيضُ الْإِيمَانِ اهـ.

فَإِنْ قُلْت الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ صُورَةُ طُرُوِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَالصُّورَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا هِيَ طُرُوُّ الْإِقَامَةِ عَلَى أَصَالَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بَوْنٌ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْ حُكْمِهَا.

قُلْت: تَفَقُّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّمَا هُوَ فِي تَارِكِ الْهِجْرَةِ مُطْلَقًا وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، وَهُوَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ، وَهَذِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَيْضًا صُورَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ صُوَرِهِ لَا تُخَالِفُ الْأُولَى الْمُمَثَّلَ بِهَا إلَّا فِي طُرُقِ الْإِقَامَةِ خَاصَّةً فَالصُّورَةُ الْأُولَى الْمُمَثَّلُ بِهَا عِنْدَهُمْ طَرَأَ الْإِسْلَامُ فِيهَا عَلَى الْإِقَامَةِ وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْمُلْحَقَةُ بِهَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا طَرَأَتْ الْإِقَامَةُ فِيهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَاخْتِلَافُ الطُّرُوِّ فَرْقٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اسْتِدْعَاءِ نَصِّ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَانْتِهَائِهِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ الْكَلَامَ بِصُورَةِ مَنْ أَسْلَمَ، وَلَمْ يُهَاجِرْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ الشِّرْكِيَّةِ كَانَتْ مَفْقُودَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ، وَلَمْ تَحْدُثْ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَبَعْدَ انْقِرَاضِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهَا الْفِقْهِيَّةِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نَبَغَتْ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ النَّصْرَانِيَّةُ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَبَعْدَهَا مِنْ تَارِيخِ الْهِجْرَةِ وَقْتَ اسْتِيلَاءِ مَلَاعِينِ النَّصَارَى دَمَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ وَبَعْضِ كُوَرِ الْأَنْدَلُسِ.

سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَاسْتَفْهَمُوهُ عَنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَة بِمُرْتَكِبِهَا فَأَجَابَ بِأَنَّ أَحْكَامَهُمْ جَارِيَةٌ مَعَ أَحْكَامِ مَنْ أَسْلَمَ، وَلَمْ يُهَاجِرْ وَأَلْحَقُوا هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولَ عَنْهُمْ وَالْمَسْكُوتَ عَنْ حُكْمِهِمْ بِهِمْ وَسُوِّيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ وَمُسَاكَنَتِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَعَدَمِ مُبَايَنَتِهِمْ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ الْوَاجِبَةِ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا فِي الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْ فَرْضِهَا بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْحَقُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْأَحْكَامَ الْمَسْكُوتَ عَنْهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>