الْمَنَازِلِ.
فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ وَيَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى أَنْ يَقْبِضَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَيُرْهِقُهُمْ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ وَالتَّنْكِيلَ الْمُبَرَّحَ ضَرْبًا وَسِجْنًا حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ فِتْنَةِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَنَهْبِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ هَلَكَ هَالِكٌ فَإِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرِيمِ عَفْوِهِ مَنْ هَلَكَ دِينُهُ فَإِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سَخَطِهِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُوَالَاةِ الشِّرْكِيَّةِ وَالْمُسَاكَنَةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى رَفْضِ الْهِجْرَةِ وَالرُّكُونِ إلَى الْكُفَّارِ وَالرِّضَا بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَيْهِمْ وَنَبْذِ الْعِزَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالطَّاعَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَيْعَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَظُهُورِ السُّلْطَانِ النَّصْرَانِيِّ عَلَيْهَا وَإِذْلَالِهِ إيَّاهَا بِفَوَاحِشَ عَظِيمَةٍ مُهْلِكَةٍ قَاصِمَةِ الظُّهُورِ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - وَأَمَّا جُرْحَةُ الْمُقِيمِ وَالرَّاجِحِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْمُتَمَنِّي الرُّجُوعِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْ الْمَرَاتِبِ الْكَمَالِيَّةِ مِنْ قَضَاءٍ وَشَهَادَةٍ وَإِمَامَةٍ فَمِمَّا لَا خَفَاءَ وَلَا امْتِرَاءَ عَمَّنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٌ مِنْ الْفُرُوعِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ خِطَابُ حُكَّامِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَشَرْطُ قَبُولِ خِطَابِ الْقَاضِي صِحَّةُ وِلَايَتِهِ مِمَّنْ تَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ بِوَجْهٍ احْتِرَازًا مِنْ مُخَاطَبَةِ قُضَاةِ أَهْلِ الْجِبَالِ كَقُضَاةِ مُسْلِمِي بُلُنْسِيَةَ وَطَرْطُوشَةَ وَخَوْصَرَةَ عِنْدَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ اهـ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ أَحْكَامٍ تَأْتِي فِي زَمَانِهِ مِنْ صِقِلِّيَّةَ مِنْ عِنْدِ قَاضِيهَا أَوْ شُهُودِ عُدُولِهَا هَلْ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَمْ لَا مَعَ أَنَّهَا ضَرُورَةٌ وَلَا تُدْرَى إقَامَتُهُمْ هُنَاكَ تَحْتَ أَهْلِ الْكُفْرِ هَلْ هِيَ اضْطِرَارٌ، أَوْ اخْتِيَارٌ.
(فَأَجَابَ) الْقَادِحُ فِي هَذَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ يَشْمَلُ الْقَاضِيَ وَبَيِّنَاتِهِ مِنْ نَاحِيَةِ اخْتِلَالِ الْعَدَالَةِ إذْ لَا يُبَاحُ الْمُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي قِيَادِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالثَّانِي مِنْ نَاحِيَةِ الْوِلَايَةِ إذْ الْقَاضِي مُوَلَّى مَنْ قِبَلِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْأَوَّلُ لَهُ قَاعِدَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشَبَهُهَا وَهِيَ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَمُبَاعَدَةُ الْمَعَاصِي عَنْهُمْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا لِاحْتِمَالَاتٍ كَاذِبَةٍ وَتَوَهُّمَاتٍ وَاهِيَةٍ كَتَجْوِيزِ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ يَجُوزُ فِي الْخَفَاءِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً إلَّا مَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَهَذَا التَّجْوِيزُ مَطْرُوحٌ وَالْحُكْمُ لِلظَّاهِرِ إذْ هُوَ الْأَرْجَحُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْحَالِ مَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْعَدَالَةِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَظْهَرَ بِأَيِّ وَجْهٍ زَوَالُ مُوجِبِ رَاجِعِيَّةِ الْعَدَالَةِ وَيَبْقَى الْحُكْمُ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرَائِنَ مَحْصُورَةٍ فَيَعْمَلُ عَلَيْهَا وَقَرَائِنُ الْعَدَالَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُتَلَقًّى، وَقَدْ أَمْلَيْتُ مِنْ هَذَا طَرَفًا فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَذَكَرْتُ طَرِيقَةَ أَبِي الْمَعَالِي لَمَّا تَكَلَّمَ فِيمَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْوَقَائِعِ وَالْفِتَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَهَذَا الْمُقِيمُ بِبَلَدِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ اضْطِرَارًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ صَحِيحًا مِثْلُ إقَامَتِهِ بِبَلَدِ الْحَرْبِ لِرَجَاءِ فَدَايَةِ الْحَرْبِ وَنَقْلِهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَكَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِ الدُّخُولِ لِفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَمَّا لَوْ أَقَامَ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ التَّأْوِيلِ اخْتِيَارًا، فَهَذَا قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الدَّاخِلِ اخْتِيَارَ التِّجَارَةِ فَمَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ وَشَكَّ فِي إقَامَتِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَالْأَصْلُ عُذْرُهُ؛ لِأَنَّ جُلَّ الِاحْتِمَالَاتِ السَّابِقَةِ تَشْهَدُ لِعُذْرِهِ فَلَا تُرَدُّ لِاحْتِمَالٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ تُوجَدَ قَرَائِنُ تَشْهَدُ أَنَّ إقَامَتَهُ كَانَتْ اخْتِيَارًا لَا لِوَجْهٍ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ لِلْقُضَاةِ وَالْأُمَنَاءِ وَغَيْرِهِمْ لِحَجْزِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، فَقَدْ ادَّعَى بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا تَوْلِيَةَ الْكَافِرِ لِهَذَا الْقَاضِي.
وَإِمَّا بِطَلَبِ الرَّعِيَّةِ لَهُ، أَوْ إقَامَتِهِ لَهُمْ لِلضَّرُورَةِ لِذَلِكَ فَلَا يُطْرَحُ حُكْمُهُ وَيُنَفَّذُ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ سُلْطَانٌ مُسْلِمٌ وَفِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَالِفِ لِيَقْضِينَك حَقَّك إلَى أَجَلٍ أَقَامَ شُيُوخُ الْمَكَانِ مَقَامَ السُّلْطَانِ عِنْدَ فَقْدِهِ لِمَا يَخَافُ مِنْ فَوَاتِ الْقَضِيَّةِ وَعَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ وَغَلَبَ عَلَى بَلَدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute